قبيل أيام معدودات من دخول الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب إلى المكتب البيضاوي مظفراً، وقبيل وقت قليل من إبرام اتفاق وقف النار في غزة، والذي تشبه هندسة بنوده تلك التي تضمنها اتفاق لبنان، مع فارق الأسرى والمساجين، يتّفق الكلّ على أنّ سياسة ترامب في الشرق الأوسط ستكون شديدة الارتباط بنظرته التجارية والمصلحية، المرتكزة -كما عهده الماضي- على شعار "أميركا أولاً" وشعار "عليكم دفع الثمن لكلّ حماية أو مساندة".
وعلى الرغم من أنّ برنامج الحزب الجمهوري وتوجهاته المقبلة بحسب استراتيجية الأمن القومي NSS 2024-2028 تركّز على الصين كأولوية مطلقة، إلاّ أنّه يطرح شعار "استعادة السلام في أوروبا والشرق الأوسط". ولتحقيق أهدافه هذه يستند ترامب إلى أساليب أكثر إكراهاً مثل تشديد العقوبات الاقتصادية، والتهديد باستخدام القوة المفرطة والاغتيالات لفرض السلام المناسب للولايات المتحدة، سواء في أوروبا أو الشرق الأوسط، ومن ثمّ اعتبار هذا السلام المفروض حماية للاقتصاد الأميركي ومصالح واشنطن وليس مصلحة أوروبا أو مكوّنات الشرق الأوسط، باستثناء اسرائيل.ترامب وإيرانمن المرجح أن يكون اهتمام ترامب بالشرق الأوسط أكبر بكثير من تركيزه على أوروبا وحلف شمال الأطلسي، كون الشرق الأوسط أكثر جدوى اقتصادياً من أوروبا. ولعلّ النقطة الأولى التي ستعمل إدارة ترامب على علاجها في المنطقة، هي محاولة احتواء إيران ونفوذها في الإقليم، خصوصاً بعد ضرب أذرعها وطرق إمدادها للوصول إلى حدود إسرائيل أو الاقتراب من القواعد العسكرية الأميركية. ولا ننسى هنا رغبات إيران التاريخية في التوسّع وفرض الهيمنة على الخليج أولاً، وصولًا إلى المشرق ودول الطوق، خلال العقديْن الماضيَيْن.
حدّثني باحث عربي كبير على تواصل دائم مع مواقع البحوث والقرار في واشنطن، مؤكّداً أنّ نقاشاً حول ضرورة ضرب إيران حتى إسقاط النظام فيها، بات يتكرّر بشكل لافت في هذه الدوائر. وقد يكون ذلك صحيحاً أو بمثابة تهديد لطهران يلاقي سياسة العقوبات القصوى، لحثّها وجرّها لتوقيع اتفاق مع واشنطن أو شنّ حرب عليها. ويفيد القول هنا إنّ إيران ببناها التحتية وغازها ونفطها تشكّل فرصة استثمارية غير مسبوقة تشخص إليها أبصار ترامب وفريقه، ناهيك عن أنّها همزة وصل لقطع طريق الحرير وصد تمدّد الصين الآخذ في التوسع. وعليه، تكون فرص الاتفاق مع إيران والانقضاض عليها متساوية، مع الأخذ بالاعتبار أنّ الاتفاق مضمون النتيجة، أمّا الحرب فقد تفتح أبواب حروب ونزاعات غير مضمونة.ترامب وإسرائيلعيّن ترامب فريقاً يزايد على حكّام إسرائيل بدعمه لها وللحركة الصهيونية، فماركو روبيو وزير الخارجية المعيّن، والذي اتهم إدارة الرئيس الحالي، جو بايدن، بعدم القيام بما هو كافٍ لإسناد إسرائيل في حربها على غزة بسبب قاعدته المعادية لإسرائيل وللسامية، يدعم كلّ اعتداء تنفّذه تل أبيب أو تعتزم القيام به من دون أي تردّد. أمّا سفيره العتيد في إسرائيل، مايك هاكابي، فيقول عن نفسه إنّه "صهيوني لا يعتذر ولا يساوم على مبادئه"، ويعتبر الضفة الغربية يهودا والسامرة ويؤيد بناء المستوطنات. في حين أنّ مبعوثه للشرق الأوسط، المستثمر العقاري ستيفن ويتكوف، عمل كحلقة وصل بين ترامب ومجتمع الأعمال اليهودي الأميركي، ولعب دوراً بارزاً في مسار التفاوض على اتفاقيات أبراهام.
يمتلك ترامب أدوات كثيرة جداً للضغط على رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، مقارنة ببايدن. واللقاء الخارج عن المألوف، صباح يوم السبت 11 كانون الثاني، بين نتنياهو وموفده ستيفن ويتكوف، الذي جاء يطلب بشكل لا لبس فيه الموافقة على صفقة غزة وبالتالي إسقاط ثوابت نتنياهو حول محور فيلادلفيا وسواه، يؤشّر بوضوح إلى طريقة تعاطي الرئيس الأميركي المنتخب مع رئيس الوزراء الإسرائيلي. وهذا أسلوب قد يتبعه ترامب مع قوى إقليمية أخرى في الشرق الأوسط. قوّة الفريق المكلّف بملف الشرق الأوسط تكمن بامتلاكها رافعة أقوى من بايدن تتيح لها إعادة إسرائيل إلى حجمها، ونتنياهو إلى موقعه الطبيعي أمام واشنطن، القوّة العظمى.
غير أنّ إسرائيل تدخل على ترامب واضعة بين يديه إنجازات تصنّفها استثنائية، فقد ضربت أذرع إيران في فلسطين ولبنان، والمواقع الإيرانية في سوريا، ودمّرت الآلة العسكرية الرسمية السورية، ولو أنّها بالية، ومنظومة الدفاع الجوي في إيران والحوثيين في اليمن. يعلم نتنياهو في العمق أنّ ترامب لا يحترمه ولا يحب التعاون معه، ولذلك سعى الأوّل إلى تقديم أوراق اعتماد دموية للإدارة الأميركية الجديدة لتصب في خدمة مصلحتها، ولا يجب أن نستخف هنا بالتغيّرات التكتونية السياسية والاستراتيجية الحاصلة. ترامب ودول الخليجمنذ عهد ترامب الأوّل إلى الثاني، تغيّرت أولويات دول الخليج. ففي آذار 2023، وقّعت المملكة مع إيران اتفاقاً برعاية صينية تسعى من خلاله إلى الحفاظ على استقرار الخليج والمنطقة كلها. وفي القمة العربية الأخيرة التي عقدت في الرياض في شهر تشرين الثاني 2024، وصف الأمير محمد بن سلمان، ولي عهد المملكة، لأول مرة الحملة العسكرية الإسرائيلية في غزة بأنها "إبادة جماعية"، وأكّد أنّ أيّ صفقة مع إسرائيل ما زالت بعيدة المنال رابطاً إقامة علاقات دبلوماسية معها بإنشاء دولة فلسطينية، في موقف أكثر تشدّداً من القول بقبول وجود مسار جدي لإقامة دولة فلسطينية. ومن على كلّ المنابر الدولية، يكرّر السعوديون هذه النقطة منعاً لأيّ التباس.
وبين عهديْ ترامب، تطوّرت العلاقات الخليجية الصينية والروسية لإرساء نوع من التوازن، خاصة وأنّ المملكة والإمارات لن تنسيا رفض ترامب حمايتهما بعد واقعة أرامكو في أيلول العام 2019. كما تبدّل الوضع في اليمن، وخرجت سوريا من محور إيران. ويعلم حكّام الخليج، المنتج للنفط والغاز، أنّ ترامب يرغب في دعم هذا القطاع وزيادة الإنتاج في بلاده، ما يفتح الباب أمام تخفيض الأسعار، ما من شأنه أن يلحق أضراراً اقتصادية بهما ويفتح مجالاً لفرض عقوبات قاسية ضد إيران من دون زعزعة استقرار أسعار الطاقة العالمية. وفي هذا السياق، يتحسّب أهل الخليج لموقف مماثل بحذر، لكنّهم في الوقت عينه مستعدون لتلزيم واشنطن تسليحهم من دون تردّد، وعدم تجاوز الخطوط الحمراء الأميركية في قطاع الاتصالات أو الذكاء الاصطناعي. ماذا عن لبنان؟رأى صديق نافذ أنّ لبنان قد تحوّل من ملعب لكرة القدم إلى ملعب للكرة الطائرة، وأنّ دوره قد ضمر حتى وصل ليكون كرة طاولة، معتبراً أنّ هذا الوضع المستجد قد يكون مفيداً للبنان حيث يخف الاهتمام الدولي والإقليمي به ويستطيع هذا البلد لملمة جراحه والتوجه نحو استقرار وإصلاح وإنماء. ولا شك أنّ وصول ترامب إلى البيت الأبيض عجّل بانتخاب رئيس للجمهورية وتكليف رئيس للحكومة تحسبّاً لما يمكن أن يكون عليه عهده. وإذا كان ويتكوف منشغلاً بقضايا الإقليم الكبرى ومصالح واشنطن وجذب الاستثمارات، فوجود مسعد بولس إلى جانب ترامب وسهولة وصوله إليه، قد يكون لمصلحة لبنان وحمايته من مطبات ستظهر تباعاً.
من إبرام صفقة ضخمة مع السعودية تشمل تطبيعاً مع إسرائيل وتوقيع اتفاق دفاع، إلى اتفاق نووي جديد مع إيران أو الانقضاض عليها، إلى السعي لنيل جائزة نوبل للسلام، إلى ولوج الفضاء بالتعاون مع رجل الأعمال إيلون ماسك بشكل غير مسبوق، ووقف حرب أوكرانيا واحتواء الصين، ثمة أمور شديدة الأهمية لترامب تتقدّم على عودة الاستيطان إلى شمال غزة وضم أراض من الضفة الغربية وتفجير بيوت في كفركلا.
رجل يلاحق الاستثمارات ويعشق المال والأعمال، وفي الشرق الأوسط كلّ الاحتمالات مفتوحة لذلك. لن يترك ترامب المنطقة لسواه ولن ينسحب منها ولن يتخلى عنها، وقد يشهد الإقليم انفراجات أو انفجارات مع رجل يقوم بما هو غير متوقع في غير المكان والزمان المتوقعيْن.