إنها لحظة تأسيسية بالفعل. لكن لا يمكنها أن تكون على قاعدة "لحظة 14 آذار" 2005. ولا على قاعدة 17 تشرين الأول 2019 بشكل صرف، ولا بالطبع على قاعدة الانتخابات البرلمانية الأولى بعد اتفاق الطائف في العام 1992، عندما قاطعتها الأطراف المسيحية الكبرى، التي اعتبرت نفسها منكسرة. في العام 2019 كان هناك ثورة شعبية تسعى إلى القضاء على الطبقة السياسية. لكن الدولة العميقة بكل مرتكزاتها الاقتصادية والمالية والمصلحية مع القوى السياسية نجحت في حماية نفسها. أما في لحظة 14 آذار 2005 فكانت محاولة لتغيير موازين القوى داخل لبنان، لكن لم يتوفر لها الغطاء الدولي، فعادت القوى المتنازعة إلى التحالف الرباعي، والذي من بعده نجح حزب الله في إعادة تقويم نفسه وتعزيز وضعيته في المسار التصاعدي الذي سلكه. اليوم، تأتي المرحلة التأسيسية في ظل متغيرات كبرى على مستوى المنطقة، أدت إلى إضعاف حزب الله عسكرياً وكل المحور الذي ينتمي إليه. وهو ما يفرض على الجانبين، الحزب ومعارضيه، التعاطي من منطلق واقعي مع كل التطورات والتجارب التي حصلت سابقاً.
الثنائي الغاضب
في الشكل، هناك من يحاول تصوير اللحظة بأنها 14 آذارية، وكأن البلاد تنقسم مجدداً بشكل عمودي بين طرفين لا يلتقيان، ولن يدفعهما إلى الالتقاء إلا تطورات دراماتيكية جرى اختبارها مرّات عديدة. في المقابل، الثنائي الشيعي يحاول تصوير اللحظة كأنه تعرّض لطعنة أو انقلاب، وأنه في حالة غبن، ويخوض حرباً وجودية سياسياً بعد الحرب العسكرية، كمحاولة لاستعادة مشهد مقاطعة الأحزاب المسيحية الأساسية لانتخابات العام 1992. على المقلب الآخر، يمثّل انتخاب جوزاف عون رئيساً للجمهورية ونواف سلام رئيساً للحكومة مع ما تضمنته مواقفهما، إحدى الترجمات السياسية لمحطة 17 تشرين، تلك الثورة التي اصطدمت بعقبات كثيرة وتشظت لاحقاً في مواجهة الطبقة السياسية، وهو ما يمكن أن يتكرر حالياً في المسار السياسي، بدءاً مع عملية تشكيل الحكومة وما يليها.
اتخذ الثنائي الشيعي موقفه في مقاطعة الاستشارات، كتعبير عن الغضب من نتيجة اختيار الرئيس المكلف. لكنه لا يزال يفتح الباب واسعاً أمام التفاوض في سبيل الانخراط بالحكومة. رفع السقف الاعتراضي هدفه التعبير عن موقف، وتحصيل أقصى ما يمكن تحصيله. ما يضع تحديات كبيرة أمام انطلاقة العهد والحكومة الأولى فيه. يريد الثنائي الشيعي جملة أمور وملفات، أولها النقاش في المسار السياسي الذي ستنتهجه الحكومة، وبيانها الوزاري، والصيغة التي ستتبع بما يخص الوضع في الجنوب والمقاومة، بالإضافة إلى النقاش التفصيلي في الحقائب والوزارات وأولها التمسك بوزارة المال، وغيرها من التفاصيل الكثيرة.
السياسة والمصلحة
ما ينظر إليه الثنائي حالياً، هو أن كل ما يجري لا يصب في صالحه ومصلحته. وهو يصرّ على توصيف ما جرى بأنه تعرّض لانقلاب. علماً أنه في السابق مارس الثنائي ما يتعرض له اليوم، منذ الانقلاب على حكومة سعد الحريري في العام 2011، إلى تشكيل حكومة حسان دياب وسط اعتراض ميثاقي من قبل السنة والدروز وجزء واسع من المسيحيين، ولاحقاً كرّس نجيب ميقاتي رئيساً للحكومة وسط مقاطعة مسيحية. لذلك فإن ما يجري هو جزء من تحوير السياسة إلى حيث تقتضي المصلحة، ووفق ما تفرضه موازين القوى، والمسألة لا تتعلق بالثوابت. ولطالما سعى الثنائي الشيعي إلى تكريس نتائج الحروب في السياسة، كما حصل بعد حرب تموز في العام 2006. وعندها وجّه حزب الله زخمه إلى الداخل اللبناني باعتصام وسط بيروت ومحاصرة السراي الحكومي والمطالبة بإسقاط الحكومة، وصولاً إلى اجتياح العاصمة واستخدام السلاح الذي كان طريقاً لإعادة فرض التسوية. وهذا ما لا يُراد تكراره اليوم، ولا بد من الاعتبار منه.
التفاوض والبازار
إنها لحظة تأسيسية بالفعل، بمعناها الجامع وليس بمعنى تكريس الغلبة أو العزل ولا المقاطعة. ثمة رهان أساسي لدى الثنائي الشيعي على عدم تشكيل حكومة من دونهم، لذا قاطعا الاستشارات ولم يستعجلا المبادرة باتجاه الرئيس المكلف، وينتظرانه أن يبادر بنفسه باتجاههما. ومن هذا المنطلق لا يريدان المسارعة إلى التفاوض أو فتح البازار. في المقابل، لا يمكن للثنائي الشيعي أن يكون خارج هذه الوضعية ولا في مواجهة كبيرة معها. فليس من مصلحته الظهور بموقع المواجه للعهد او المتسبب بتعثر انطلاقته، ولا مواجهة كل الجو الدولي القائم، ولا يمكنه التغاضي عن الاستحقاقات المقبلة، لا سيما إعادة الإعمار والإقبال على انتخابات نيابية بعد أقل من سنة ونصف السنة.
ما جرى يتقاطع مع تحولات إقليمية ودولية، أسهمت في إضعاف حزب الله وتقويضه عسكرياً وإنهاء دوره الإقليمي، بالإضافة إلى إضعاف المحور الذي ينتمي إليه. لكن ذلك لا يعني انتهاء دور حزب الله الداخلي، ولا انكساره سياسياً بالمعايير الداخلية اللبنانية، بالإضافة إلى امتلاكه لقوته البرلمانية عبر احتكار التمثيل الكامل للطائفة الشيعية إلى جانب حركة أمل، خصوصاً في ضوء الإصرار على تكريس الموقف الموحد في استحقاقات كثيرة، من دون انفكاك أو انفصال، وهو ما يجعل الباب مفتوحاً أمام التسوية والتفاهم، ولكن ليس وفق إملاء الشروط ولا وفق المعادلات القديمة.