2025- 01 - 15   |   بحث في الموقع  
logo سفير قطر عرض مع مفتي مناطق الاوضاع logo حجّار في عرض لإنجازات وزارته: الإصلاح مسارٌ تراكميّ logo إلقاء القبض على المجرم قاتل المغدور جورج روكز والسبب صادم... logo شو الوضع؟ الإستشارات في يومها الأول في انتظار حل عقدة "الثنائي" وباسيل يؤكد أهمية الفرصة المتاحة... logo السيدة ميّ ميقاتي تلتقي عقيلة ملك البحرين وتشارك في المنتدى الاقتصادي العالمي للمرأة.. logo سلام يواصل استشاراته وحراك دوليّ يواكب مساعي تشكيل الحكومة logo معوّض: نتمنى أنّ تضمّ الحكومة أكبر عدد من الكتل السياسيّة logo توغل عسكري وجرف أراضٍ ونسف ممتلكات: اسرائيل تواصل عدوانها
فيما تتفقدون القتلى على طريق دمشق…اعثروا عليّ
2025-01-15 15:55:55

حين لامستْ الأرض إطاراتُ الطائرة التي حملتني إلى بيروت، لمستُ دمشق، هكذا شعرت فيما تسارعت دقات قلبي بعد غيابي عنها 14 عاماً تقريباً قضيتها في أكثر من بلد. فيض من دمع حارق لا يمكن إخفاؤه ولا يمكن حتى تجنّب أن يراه الآخرون. قضيت الوقت قبل وصول منطقة المصنع الحدودية، متوتراً ومترقباً ومتلهفاً لما يمكن أن أراه في الجانب الآخر من لبنان، وكيف ستبدو سوريا الجديدة الحرة تماماً وأخيراً، بترابها وهوائها الذي لا يتمايز عن جواره وتراه كذلك رغم كل شيء. أرضها وترابها وهواؤها الذي أعتقد أنني، وللمرة الأولى في حياتي، سأستنشقه بقوة وأحتفظ به في قلبي. لم أحب يوماً هذا النوع من التغني الأبله والأجوف الخالي من العاطفة، الذي لقنتنا إياه الشعارات البعثية المقيتة ومناهج التربية والمؤسسات الحكومية، وصبّته في رؤوسنا وذاكرتنا على مدى عقود طويلة. كان المسلحون الشبان، أول ما لمحت، مع علم سوريا الجديد، أخضر وأسود وأبيض ونجومه الحُمر.

شبان في العشرينات من العمر، أو أكثر قليلاً، يمررون السيارات برشاقة وجدية وحماس، يدققون في اللوحات وينظرون إلى القادمين بلا مَعالم عدائية أو نظرات متشككة، خلافاً لما كنا نرى ونعاني في وقت ما، من أصغر عنصر حكمنا قادته، وبلهجة التسلّط تلك التي استعارها واحترفها كأداة ترهيب تدلّ على الجهة التي تتحدث معك.بعض الشبان الجدد، ملثم، ومعظمهم حاسر الوجه. عسكريون يرتدون أحذية خفيفة، يدققون في صور الجوازات ويقارنونها بوجهك ويلوحون لك بودّ. العلَم القديم ذو النجوم الخضر، يبدو ممزقاً في أكثر من مكان، وصور القائد الصنمي تتكرر بيأس كما لو أن الجراد عبَر وأكل معظم ملامحها، وعلى أطراف الطريق في البعيد تلمح بقايا صور أو علم أو شعار نجا وينتظر من يصل إليه.لوحات هائلة محترقة لسيادته المخلوع، كما لو أن النظام كان يوزع كل تلك الصور لوجهه المتشنج ذاك ليثبت له ولسواه أنه يمتلك تلك الأرض وحده وهي منطقة نفوذه الأبدي. وتحمل تلك الرموز واللوحات الشاخصة، دلالات إرغام الناس وخنوعهم، كما تفعل الحيوانات حين تتبول وتترك الأثر كعلامات تحدد مساحات عبورها ولا يستحسن الاستهانة بها أو تجاوزها.
دمشقتلوح دمشق منبسطة وواسعة وبيضاء، أو هكذا بدت لي ابتداءً من المزة. يداخل ازدحامها وأبنيتها، الاعتيادي، والكثير من رثها القديم، وتصعقك الأبنية الأمنية ذليلة ومُهانة وكئيبة، هي التي نكلت بنا طويلاً، والآن مُحترقة، كما لو أنها تشفي غليل ملايين البشر ممن رزحوا تحت سطوة ابتزازها وسحقها واخفائها لكثيرين من دون وجه حق.الأمن الجنائي كان خاويا ومحترقاً ومهاناً كما يليق به، وألمح من دون أن أرى بالطبع، أقبيته والصفعات والتنكيل بالقرب من ساحة الدوار المهملة. لمحت باباً من الأسفل وعرفت أنه على الأغلب مخصص لتهوئة سجن يقبع تحت الساحة تماماً، وأن ثمة بشر مازالوا يصرخون في عتمة أيامهم ومصائرهم التي سحقت هناك. تبدو المحلات مليئة، لكن ملامح الناس وثيابهم تعاني إرهاقاً واضحاً حد الفقر. الأبنية تبدو كهلة بإتجاه العباسيين، والنخيل نفسه تظنه أصبح أقل، والأنفاق تخلعت جدرانها قليلاً. تعجّ دمشق بالبشر وتزدحم، سوى أنك تلمح فيها بسيط سكانها أو بعيدهم القادم من الجوار. الخبز، تلك السلعة النادرة، متاحة أخيراً وبلا بطاقات، يستطيع المرء شراءها بكل سهولة، والفواكه وكل السلع متوافرة... والغلاء سيد، كما يؤكد الجميع. المتسول يمد كفه وموجود، ويستوقفك عدد غير قليل من أطفال ونساء، بعضهم بملابس لائقة ونظيفة وأسلوب هو أقرب للتردد والخجل.
وقود
الأطفال في أكثر من مكان يدخنون بلا حرج، وبعضهم يضع علب السجائر في جيوبه الخلفية. أحياناً، قرب بعض المخابز، ترى ازدحاماً كبيراً والناس ينظرون إليك بتمعن وبشيء من الفضول إلى القادمين الذين لا يشاركونهم بؤساً واضحاً وجلياً في الملابس والملامح ولغة الجسد. تنتشر غالونات البنزين والوقود المهرب من لبنان على حواف الطرق، إنه أنظف وأرخص، يقول لي سائق سيارة.عند المصارف وكوات التحويل والاستلام من العملات الأخرى، هناك عشرات الأشخاص وأحياناً المئات، ينتظرون حوالاتهم بصخب غير عادي، الكل ينتظر خلاصه هنا.مطر خفيف يهطل على دمشق، أتى أخيراً بعد صلاة استسقاء، يقول آخر صادفته، وهي المطرة الأولى في هذا الموسم الشحيح على ما يبدو. أتجول في أغلب أسواق دمشق الرئيسة، نزولاً من الجسر الأبيض إلى الحمراء والصالحية، وأعبر في الشعلان مروراً بالسبكي التي صارت أصغر مما كنت أعتقد، مع تعديلات طفيفة وزوار أقل بسبب الطقس ربما.الناس في دمشق القديمة تحديداً، أكثر سعادة، تلمح الضحكات والأصوات والوجوه المضيئة، شيء ما تغير أكيد، جدّي ومختلف.يجتمع المثقفون في "مظبوطة" والروضة" بعيون تنتبه لأي جديد، ويقترب البعض مرحباً بلطف، معرفاً عن نفسه ثم ينسحب بدماثة. هناك فرقة "للعراضة الشامية" تستقبل المشاهير الوافدين من الخارج، للترحيب بهم. يريددون أناشيد تمجّد الحرية ويدمجون سيد درويش مع سواه في توليفة فكهة وغاية في العفوية. شبان يشيعون بهجة وتفاؤلاً مستحباً وحقيقياً هذه المرة.طاولة "ابو حالوب"، اللاجىء العراقي الذي غادر منذ سنوات وصار وجهه وحضوره مثل علامة شهرة تخصه وحده هناك... لا أعرف لماذا اخترت طاولته للجلوس قبل أن ينبهني أحدهم: هل صارت حكراً له؟ ابتسم وأقول: ها أنا أحل مكانه رغم أنه موجود على ما يبدو بعينيه الطيبتين المتطلعتين واللتين لا ينافسه عليهما أحد.زرت والتقيت الكثيرين ممن عرفني رغم غياب طويل، وممن لم أعرف في الروضة والهافانا ومظبوطة وبار أبو جورج، وبعض البارات المجاورة والمقاهي المنتشرة في دمشق القديمة. اختلاط وصخب ورائحة دخان وحوارات سياسية بأصوات عالية. هناك فريقان من المثقفين، أولهما مستبشر ويظن أن الوقت مبكراً للحكم على تجربة "الهيئة"، وأن هناك من استغل الهامش الديموقراطي وطالب بعلمانية مبكرة في ساحة الأمويين التي ضمّت أيضاً رموزاً مؤيدة للنظام المخلوع، اندست بين الجموع وكانت في الماضي القريب بين وجوه الفساد والاستبداد. وثانيهما متحفظ، ويبدي الكثير من الملاحظات ويوثق انتهاكات ويبالغ في عرضها على أنها كارثية. لكن في العموم، يتصرف السوريين ويتكلمون بثقة أكبر أخيراً، يشعرون أن أحداً لن يقصيهم بعد الآن من المشاركة في الحياة السياسية.ولمحت على عجل، قلقاً عند بعض من التقيتهم، يسألون من جديد عن اللجوء أو الهجرة. كان الأمر محزناً ومبكياً من جانب. هناك من يشعر بخطر داهم، يخشى أسلَمة المجتمع واجتياح مناهج التعليم والتجاوزات الفردية هنا وهناك، والخطاب الديني الذي لا يروق لكثير من المثقفين ممن خبروا هذا الخطاب وصار يهدد حياتهم الخاصة وحياة الناس العامة، فيتهكمون عليه.
وهناك من يرى أن المرحلة الأولى لحكم بشار الأسد، كانت مبشّرة، لو استمرت الاصلاحات أو كانت جدية، لكن الغالبية لا ترى ذلك.في الليل، أقترب من العمود الشهير للمرجة، هناك عُلقت صور المفقودين بالعشرات، بعضها ينعي، وبعضها يستجدي أي معلومة أو يتسقط أي خبر مع هاتف للتواصل. تمتد الصور التي ترتجف من البرد حتى مدخل الحميدية، وتتابع طريقها معك إلى نهاية مرورك العابر في أزقة دمشق خلف الأموي باتجاه باب توما، حيث تولد دمشق هناك حقاً، مرحة وحرة وضاحكة بشكل يليق ببساطتها العميقة وروحها الطيبة. مشانق
جنوبي دمشق، كانت المخيمات مدمرة بالكامل تقريباً، بعض بيوتها معلقة سقوفها كما لو أنها مشانق موتى تشخص على منصات إعدام. الجدران مبقورة بقنابل فتحت جدران البيوت على بعضها البعض، ومن خلالها تستطيع ان تتخيّل ما حل بالبشر هناك. وحينما تتجه أبعد لتبحث عن حفرة "التضامن"، ويدلك عليها العشرات من دون أن يرافقوك، يقفز أمامك فجأة طفل في العاشرة ملوثاً بالطين وبوجه متجهم تماماً وصارم وقسمات ميتة، يقول لك بثبات حازم وهو يشير بإصبعه مكرراً: هنا، هنا كانت الحفرة، ويختفي. البناء المجاور فاغر فمه، يبدو كصرخة، وأنت وسطه عاجز ومرتبك وتدور حولك. تطلب من سائق التاكسي أن يوصلك إلى مدرستك القديمة لتعود طفلاً لا يريد أن يعي أو يصدق كل هذا الذي رأى، ولا يريد أن ينساه أو يتجاهله كذلك.في النهاية، يبدو المشهد في دمشق واعداً وعارماً ومقبلاً على تغييرات جديدة، السجال عال ومحموم وصاخب، كعادة السوريين المأخوذين بالسياسة والحالمين بخلاص ما.قبّلت وعانقت أصدقاء وصديقات على مرأى رجال "الهيئة"، قرب قوس النصر، من دون أن يبتعدوا حتى. غنينا وبكينا في بارات وشربنا وقرأت الشعر في حانة أبو جورج، وحين حدث ذلك كان صمت كنسي هائل يلف حانة مقدسة لا تتسع لأكثر من عشرة أشخاص، مع الكلمات الأولى لقصيدة: "فيما تتفقدون القتلى على طريق دمشق…اعثروا عليّ".إسرائيل تضرب تخوم دمشق، يراقب الناس بلا تعقيب ويستمرون في يومهم المعتاد، وكأن الأمر عارض أو تفصيل غير مهم. تستيقظ دمشق كل صباح بهدوء، حماماتها توزع سلاماً آسراً يلوح ويرسم دوائره فوق بيوتها أسفل الجبل الأشم، حارس الأبد ذاك، ثمة سلالم للرحمة والألفة تمتد إلى سماء لانهائية الأفق، وثمة فضاء يتسع كما لو أنه عناق.


المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2025
top