في مقطع فيديو مستفز، ظهر المذيع السابق في التلفزيون السوري يزن فويتي مع عدد من المتطوعين في مجموعة "سواعد الخير"، وهم يرسمون ويلونون زنزانات داخل فرع الأمن السياسي باللاذقية، في استمرار لمشهد الفوضى الذي طبع تحرير المعتقلين من سجون نظام الأسد، من ناحية غياب التوثيق وعدم الاعتناء بالأدلة والوثائق المهمة لأي مرحلة مستقبلية مقبلة في سوريا التي يسعى شعبها للعدالة والمساءلة.
وظهر اسم فويتي تحديداً في آب/أغسطس 2023، من بين الفائزين في مسابقة بالمشاركة مع "مجلس الأعمال الروسي السوري" ووزارة الإعلام السورية والسفارة السورية في موسكو ضمن البرنامج الحكومي الروسي "الجيل الجديد"، ومُنح زيارة لحضور ورشات عمل في القنوات التلفزيونية الروسية.
وظهر فويتي الذي احتفل بعيد ميلاده الثامن والعشرين قبل أيام، في الفيديو، متحدثاً مع زملائه بلغة الأمل والطاقة الإيجابية وغيرها من المصطلحات التي كانت حاضرة لعقود في الإعلام الرسمي وشبه الرسمي في البلاد، والتي تجرد أي مأساة أو قضية جادة من طبيعتها لصالح لغة مائعة أخلاقياً، كانت تستخدم في الماضي لطمس آلام السوريين في ظل نظام الأسد، ويبدو في الفيديو أنها تحاول محو الأدلة في المعتقلات سيئة السمعة اليوم.وتلك اللغة كانت أساس دعاية النظام السوري بأن "سوريا بخير" لأن "الله حاميها" وبسبب "وجود الرئيس بشار الأسد في قيادتها"، وأن الحياة في سوريا جميلة رغم كل الصعاب، وغيرها من المصطلحات التي كانت تبرر غياب الحديث عن السلبيات وتوجيه الانتقادات في البلاد بضرورة "النظر إلى النصف الممتلئ من الكأس"، في حين غُيّبت الأصوات الناقدة في المعتقلات سيئة السمعة أو طُرد أصحابها إلى المنافي، حتى لو كان النقد آتياً من موالي النظام البائد حينها، بما في ذلك العاملون في الإعلام الرسمي، كالمذيعة المخضرمة هالة الجرف التي اعتُقلت وفُصلت من العمل بسبب انتقادها لشيوع الفقر في البلاد عبر اقتباس بسيط من الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو العام 2021.واليوم تنتشر تلك اللغة في خطاب صنّاع محتوى سوريين وعرب، وأفراد عاديين، تجاه سوريا، برسم صورة رومانسية للألم والمعاناة، وهو أسلوب يخلو من الإنسانية والتعاطف عند التعاطي مع الضحايا وعائلاتهم، لأنه في الواقع يستغل تلك القصص من أجل ادعاء الإنسانية، والدَّوس عليها من أجل غايات أخرى، من بينها اليوم الحديث عن طي الصفحة ونسيان الماضي والسير نحو سوريا جديدة مستقبلية. وهذه كلها شعارات عامة نبيلة ومشرقة، لكنها تصبح سامة وخطيرة في بلد منقسم على نفسه يجب عليه السير في طريق العدالة القانونية بشكل ممنهج، كي لا تظهر نتائج عدم المحاسبة لاحقاً بصورة أعمال عنف وثأر واحتقان اجتماعي على سبيل المثال.والحال أن أقبية المعتقلات التي يتم تلوينها اليوم ونشر خطاب الأمل السام منها، مع شعارات "فتحت الأبواب وحلّقت الأرواح"، أخرجت الشهر الماضي صوراً مروعة تكشفت للمرة الأولى أمام العالم، وكانت كافية لبث الرعب في القلوب، من غرف التعذيب إلى غرف الإعدام إلى أشكال المعتقلين الخائفين والمذهولين، إذ كانت المعتقلات سيئة السمعة تشكل تجسيداً للصمت والسرية والتعتيم الذي فرضه النظام السوري على البلاد ومحاربته للإعلام والمفكرين والأصوات الحرة، ليس فقط من ناحية اعتقالهم وزجهم فيها، بل أيضاً لأنه طوال العقود الماضية لم تكن هناك صورة واحدة من أي من تلك السجون التي تكرست عبر السنوات كأسطورة شفهية للرعب من قِبل النظام بين السوريين، من دون أن يروها حتى، لتكريس حكمه القائم على العنف والتخويف.وتجريد السجون بهذه السرعة من هالتها المخيفة بشكل متعمد، يشكل تحريفاً لتاريخ تلك السجون التي لا يمكن تخيل ما عاناه داخلها مئات الآلاف من المعتقلين، حتى مع قراءة شهادات الناجين منها، لأن ما خفي كان أعظم فعلاً. التعذيب اليومي، اليأس، واختفاء الهوية لصالح أرقام، وتحديداً الظلام الذي ميّز كل تلك الأقبية المروعة، حيث لا يرى المعتقلون الضوء لسنوات وسنوات. ويتم اليوم محو كل ذلك التاريخ، مهما كان مؤلماً، بقليل من الألوان والموسيقى الثورية والعبارات التي تدعي الإنسانية ونشر الطاقة الإيجابية وإعطاء القوة للضحايا.
والفيديو ليس الوحيد الذي يثير الغضب، لأن مختلف الفروع الأمنية في سوريا منذ سقوط نظام الأسد، بما في ذلك "سجن صيدنايا العسكري" المعروف بلقب "المسلخ البشري"، عانت الفوضى إلى حد ظهور تقارير إعلامية عن أشخاص يقومون بتفكيك الزنزانات في سجن صيدنايا لبيعها كقطع خردة، في ما يبدو أنه "تعفيش" منظم. بينما كانت الفروع الأمنية ككل مزدحمة بالإعلاميين وصنّاع المحتوى والأفراد العاديين في غياب جهات تنظيمية أو مؤسسات من المجتمع المدني وغيرها.وباتت الزنازين المظلمة، حيث كان التعذيب والموت يحصلان بطريقة ممنهجة طوال 54 عاماً، في مختلف مدن البلاد، مكاناً لجذب المشاهدات في مواقع التواصل، بدلاً من العناية بها وحمايتها كدرس "تنذكر وما تنعاد"، ومن أجل البدء بعملية محاسبة في إطار العدالة القانونية لاحقاً، فيما يكرر ناشطون وصحافيون الحديث عن أجندة ممنهجة من قبل فلول النظام السابق لطمس الأدلة وعرقلة الوصول للعدالة.
وليس غريباً بالتالي أن تطالب منظمة "هيومن رايتس ووتش" الإدارة السورية الجديدة بالحفاظ على الأدلة والوثائق التي تم العثور عليها في السجون والفروع الأمنية التابعة للنظام السوري السابق، مضيفة، الاثنين، أن "عشرات آلاف السوريين اختفوا قسراً على أيدي أجهزة الأمن والمخابرات التابعة للأسد، ومن حق العائلات معرفة الحقيقة، ولذلك يجب الحفاظ على أدلة الفظائع التي ارتكبتها الحكومة السابقة".وأعربت المنظمة عن قلقها من أن الأدلة الحاسمة على الفظائع التي ارتكبها النظام السابق، معرضة لخطر التلف أو التدمير أو الضياع، محذرة من أن ذلك يُضر بجهود العدالة للضحايا والناجين وجميع الذين ما زالوا في عداد المفقودين وعائلاتهم.وزار وفد من المنظمة العاصمة دمشق بين 10 و20 كانون الأول/ديسمبر الماضي، وأجرى جولة على بعض المستشفيات التي كانت تستقبل جثث المعتقلين، إضافة إلى السجون ومراكز الاحتجاز، ومواقع بعض المقابر الجماعية. وخلال الزيارة، شاهدت المنظمة تعرّض غرف بأكملها في الفروع الأمنية والسجون، للحرق بشكل كامل، إضافة إلى وجود وثائق مبعثرة على الأرض.وشدّد رئيس "لجنة التحقيق الدولية المستقلة الأممية بشأن سوريا" باولو بينيرو، على ضرورة جمع وحفظ الأدلة المتعلقة بجرائم التعذيب والانتهاكات، مؤكداً أن هذه الأدلة ضرورية لملاحقة الجناة أمام المحاكم الدولية. وقال في تصريحات سابقة: "لماذا تعتبر الأدلة مهمة؟ لأنه إذا كنت تريد محاكمة مرتكبي التعذيب والتدمير والقتل والخطف، فعليك أن تستند إلى أدلة قوية ومثبتة".
تم إخفاء عشرات الآلاف من السوريين قسراً على يد أجهزة الأمن والمخابرات التابعة للحكومة السابقة سيئة السمعة.تستحق العائلات معرفة الحقيقة، ولذلك يجب الحفاظ على أدلة الفظائع التي ارتكبتها الحكومة السابقة. هذا هو السبيل أمام الحكومة الانتقالية لبناء الثقة مع الشعب السوري.#سوريا pic.twitter.com/goaUwU6CjA
— هيومن رايتس ووتش (@hrw_ar) January 13, 2025
وحتى لو كان السوريون يستعيدون فضاءهم العام عبر المشاركة بالاحتفالات في الساحات العامة ورسوم الغرافيتي التي تنشر رموز الثورة السورية على الجدران، فإن الفيديو الذي يرفع فيه المشاركون الشعارات نفسها داخل السجون مع إشارات النصر بإيديهم، لا يمثل جزءاً من ذلك السياق، بل هو سلوك لا يمكن فهمه أصلاً، حتى ضمن اللغة التي يتحدث بها المشاركون، من ناحية كسر قيود الظلام ومساعدة الآخرين وغير ذلك. لأن ما يقومون به لا يتعدى التخريب والأذى، ما دفع السوريين لنشر هاشتاغ #اتركوا_حيطان_أولادنا #دعوا_روزنامة_المعتقلين_لتشهد على نطاق واسع، واحترام آثار عذابات المعتقلين كشهادات للتاريخ، مع دعوات للتحقيق مع المخرّبين.
وتخريب السجون بهذه الطريقة لا يمحو فقط الآثار الفيزيائية الموجودة كدلائل على الفظائع المرتكبة من قبل النظام المخلوع، بل يشكل أيضاً عدم احترام للضحايا واستهتاراً بقضية المعتقلين، كما يشكل أيضاً عبثاً في الذاكرة الجمعية للسوريين، لأن تلك الأماكن يجب أن تبقى شواهد للأجيال المقبلة على المأساة كي لا تتكرر من جديد، كما أن أولئك الأفراد لا يملكون تفويضاً للعبث بذكريات المعتقلين في تلك الزنازين ولا ذكريات عائلاتهم عنهم، حتى مع التسليم جدلاً بأن النية من وراء مشروعهم نبيلة.وتتكرر الأمثلة في عدد من دول العالم التي شهدت سقوط أنظمة دكتاتورية أو حروباً أهلية تخللتها فظائع وانتهاكات لحقوق الإنسان، من كمبوديا إلى ألمانيا النازية مروراً بالبوسنة ورواندا، وكلها دول حولت السجون ومراكز الاعتقال والأعدام الجماعي إلى متاحف تحفظ الذاكرة البصرية للمستقبل، منعاً لفقدان ذاكرة جمعية تجاه الأرواح التي فُقدت، والأجساد التي عُذّبت والعائلات التي تشتّتت، مهما كانت القصص وراء تلك الأماكن مروعة.