لقارئ مسار النزاعات والمطبات في لبنان حول الاستحقاق الرئاسي، أن يستنتج أن التاريخ يتكرّر في كل مرة وبنسخ باهتة، كأننا تعلمنا من الماضي كيف نصنع الأزمات، وننتظر من الأغيار أو مفوضي ومندوبي البلدان العظمى وصاحبة الدور، أن يقدموا لنا الحلول والوصفات "السحرية" وحتى الرضوخ أحياناً لمنطق العصا والجزرة. واللافت ليس تكرّار الأزمات والاستعصاء فحسب، بل أنه حين تُوصد الأبواب في وجه الشخصيات السياسية المدنية، ويتفاقم شدّ الحبال بين الطوائف والجماعات المنقسمة، يكون اللجوء إلى الشخصيات العسكرية، حتى صار في الوجدان، أن قائد الجيش أصبح مثل "ولي العهد"، بمجرد وصوله إلى وزارة الدفاع اليرزة، يبدأ النظر إلى قصر الجمهوري في بعبدا. ربّما هو لا يفكر في هذا المنحى، لكن الأحداث وبحر الأزمات تدفعه في هذا الإتجاه، إلى جانب شلل القوى السياسية عن إيجاد الحلول.في كتابه "من الجندية إلى الديبلوماسية" يذكر اللواء أحمد الحاج، أحد رموز المرحلة الشهابية، أن الرئيس الأميركي دوايت ايزنهاور أوفد مبعوثه الشخصي روبرت مورفي "للمساعدة على حل المشكلة اللبنانية"، وانه شكل مع السفير الأميركي روبرت مكلنتوك "ثنائياً منسجماً". فعندما كان مورفي سفيراً في بلجيكا، كان مكلنتوك مسؤولاً سياسياً فيها. ويضيف أنه بعد مشاورات على الصعيد الإقليمي والدولي، لا سيما الرئيس المصري جمال عبد الناصر وبترحيب من الفرنسي شارل ديغول، تبيّن أن اختيار اللواء فؤاد شهاب هو الحل الأنسب.انتُخب شهاب في 31 تموز1958 رئيساً للجمهورية، بعد بطريرك الموارنة المدني، الرئيس كميل شمعون. المشهد يتكرّر الآن، سواء في الحروب أو المحاور، ثمّة تشابه بين انتخاب شهاب وانتخاب جوزاف عون، تشابه في الشخص المنتخب لناحية أنه من خارج النادي السياسي وأقطاب الجماعات الأهلية أو ما يسمى "العائلات الروحية" والكتل النيابية، وإن اختلفت الأقاليم والتحالفات والدول. والمفارقة في ما يرويه اللواء الحاج عن تردّد شهاب وقوله: "أخشى في حال قبولي أن يصبح ذلك سابقة تشجع في المستقبل طالبي العلا من الضباط الموارنة الذين يتولون قيادة الجيش، على السعي للرئاسة الأولى مهما كان الثمن، فيعرضون الجيش والبلاد لأدهى الأخطار". ويذهب الحاج إلى القول إن شهاب كان مصيباً ويعطي على ذلك ثلاثة أمثلة، فتحدث عن "طمع العماد بستاني بالوصول الى سدة الرئاسة ما دفعه الى توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم مع ياسر عرفات"، ويقال إنه نفذ ما طلبته منه الطبقة السياسية، وتحديداً الرئيس شارل حلو. ويتحدث الحاج عن تشبث العماد ميشال عون بالحكم بعدما عينه الرئيس أمين الجميل رئيساً للوزراء العام 1988، وما نتج عن حربي الإلغاء والتحرير (وفي ولاية ميشال عون الرئاسية كانت الكوارث). ويتذكر اللواء الحاج ما جره ايضاً عهد العماد إميل لحود من ويلات واغتيالات، وليس بالضرورة أن تكون العهود اللاحقة متشابهة، سواء ميشال سليمان أو جوزاف عون، الذي، وقبل انتخابه رئيساً، كانت الحملات المبرمجة ضده في بعض وسائل الاعلام، سواء بتذكيره بابراهيم طنوس، أو بالتلويح بـ6 شباط جديدة.لعل المشكلة ليست في سعي الضباط الموارنة إلى رئاسة الجمهورية، بل في تكرار الأزمات والحروب التي تشبه حرب 1958، وبعد كل أزمة أو حرب تتدخل الدول والمساعى الدولية والإقليمية، ليكون الاختيار قائد الجيش. فبعد تعثر مسار "السلام" في الشرق الأوسط، وتصاعد وتيرة عمليات حزب الله في الجنوب، ومعها التوجه معها الأمنى المتمثل في النظام السوري وحزب الله، وقع الاختيار على إميل لحود. وبعد حرب تموز 2006 والاعتصامات الشهيرة وأحداث 7 أيار، كان اختيار ميشال سليمان، ومن بعده ميشال عون. وبعد سقوط الأسد ومع تداعيات حرب الإسناد في لبنان، كان جوزاف عون، والأخير أتى رئيساً بعد تصدع "المحور" الذي يفرض رئيس الجمهورية منذ اتفاق الطائف. فهل يكون خطاب القسم الذي تلاه جوزاف عون خريطة طريق للخروج من المستنقع؟أتى جوزاف عون من خارج النادي السياسي، الذي كان يحاصره، وأصبح النادي السياسي محاصراً به على قول أحد الزملاء. وبعد خطاب القسم عالي النبرة، صار الناس على وعد بشهابية جديدة، خصوصاً أن الانتخابات الرئاسة أتت بعد أزمة اقتصادية وحرب قاسية ودمار رهيب وتحولات إقليمية وفراغات إدارية وأمنية وترهل قضائي وعجز سياسي وفساد "عرمرمي" من مختلف النواحي. لكن علينا القول، وليس من باب التشاؤم، أن خطاب القسم بلا آلية تنفيذ يصبح مجرد مقال في جريدة، ومساره تقيّمه الوقائع لا التمنيات. فيوم جاء أميل لحود رئيساً، غنى له ملحم بركات "من حلم الناس جاي"، وسرعان ما تحول الحلم كابوساً، فقط بقي بالنسبة إلى حزب الله "الرئيس المقاوم". ويوم أتى ميشال عون تحت مسمى "الرئيس القوى" و"حقوق المسيحيين"، انقلب عهده إلى كوارث على المسيحيين وغيرهم. وما بين عهد إميل لحود وعهد ميشال عون، ضاع عهد ميشال سليمان بين تعطيل وحروب اقليمية.ربما ما يدعو للتفاؤل في عهد جوزاف عون، كما قلنا، هو أنه أتى بدعم دولي وإقليمي، لكن خطاب القسم يحتاج إلى ثورة بكل ما للكلمة من معنى، والثورة بمعنى إزاحة كل العوائق أمام الإصلاح الجذري. فهل نكون أمام شهابية جديدة، أم نستأنف مسار الأزمات؟ مع التذكير بأن الشهابية المحمودة بكثرة اليوم، على أنها النموذج الأنسب للبنان الوطن ودولة المواطنة، في المُضمر الطائفي والقبلي، لم تكن موضع ترحيب من أقطاب القوى السياسية في مرحلة ما. ففي العام 1968، نشأ الحلف الثلاثي من قبل الأحزاب المسيحية الثلاثة الكبرى في لبنان: حزب الكتائب بقيادة بيار الجميل الجدّ، وحزب الوطنيين الأحرار بزعامة الرئيس السابق كميل شمعون، والكتلة الوطنية بزعامة ريمون إده. والحلف جاء رداً على السياسة الشهابية، إذ اعتبر جمهور المارونية السياسية أن الشهابية تنازلت للمسلمين على الصعيد الداخلي، كما تنازلت للناصرية على الصعيد الخارجي.