استبعدني اتحاد طلبة سوريا عام 1976 عن الفعاليات الثقافية كافة في جامعة حلب، بعد أن تجرأت وجادلت عضو القيادة القطرية لحزب البعث أحمد دياب في مدرج كلية الطب عن تدخل الجيوش السوري في لبنان، ضد المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية. استاء مني لأني استخدمت تعبير "تدخل ضد"، وصحح لي قائلا "تدخل لحماية". منعوني بكتاب رسمي صادر عن رئيس الاتحاد زاهد اسطنبولي، ولذلك تفاجأت حينما دعاني مدرس مادة التربية القومية في كلية الاقتصاد الدكتور غسان الظاهر لحضور لقاء مع رفعت الأسد الذي سوف يزور الجامعة. وكي لا أحرجه، وأعرض نفسي لرد فعل سلبي من قبل المنظمين، عرضت عليه نسخة الكتاب الذي عممه اسطنبولي على فروع اتحاد الطلبة، وعمداء الكليات. ولكنه لم يكترث بقرار المنع، وشتم اسطنبولي والاتحاد، وقال لي إن اللقاء يقتصر على مجموعة من الشباب التقدميين يرغب رفعت اللقاء بهم، بعيدا عن حزب البعث في الجامعة واتحاد الطلبة.
أحسست بأن هناك فخاً من وراء الدعوة، لكني كنت أثق بغسان وأقدره، وأعرف موقفه السياسي المعارض للنظام، ولذا ذهبت إلى أحد مدرجات كلية الاقتصاد في حي سيف الدولة، ووجدت طالبة ترشد المدعوين إلى المكان. العدد لا يتجاوز ثلاثين طالبا من جميع الكليات، وقد تمت دعوة الطلبة المعروفين في النشاطات الجامعية وفي مدينة حلب. ولم يطل الانتظار حتى دخل رفعت الأسد وبرفقته ثلاثة أشخاص أحدهم يرتدي مثله بدلة عسكرية مرقطة، وعلى كتفه عدة نجوم وصدره موشح بالأوسمة، والثاني طالب في كلية الآداب وهو شاعر يكتب القصيدة العمودية، وكنا على خصومة كوني من كتاب قصيدة النثر، والثالث زاهد اسطنبولي. واكتشفت هناك أن دور الدكتور غسان كان يقتصر على ترشيح بعض الأسماء، ومنهم أنا.
رحب بنا رفعت وأعطانا الأمان للتعبير عن آرائنا بصراحة ومن دون خوف. وقال إنه طلب اللقاء مع "نخبة النخبة" في الجامعة، ونحن الذين سيعتمد علينا من أجل إيصال صوت القطاع الطلابي، الذي نريده أن يشارك في المسيرة، ومما ورد على لسانه أنه يتكلم بصفة تمثيله لتيار من يسار حزب البعث، وصارحنا بأنه يعرف تفاصيل عن كل منا ولديه تقرير مكتوب عن كل مدعو، وقد تقصًد ألا يكون بينا أعضاء من حزب البعث أو اتحاد الطلبة، وفي الحقيقة لم يكن بيننا أعضاء في تنظيمات سياسية، وكنا بنسبة 90 في المائة من المستقلين غير الموالين للحكم.
جلسنا في الصف الأول من المدرج، على يميني صديق لي يدرس في كلية الاقتصاد، مفصول من حزب البعث يدعى جورج ديب، وعلى يساري طالب لبناني في كلية الطب يدعى علي العبدالله، لا يكف عن المزاح والتنكيت على يسارية رفعت، الأمر الذي خفف عنا ثقل المفاجأة، وجعلنا نرى الوجه الطريف من المسألة. ومما قاله همساً "يبدو أن الرفيق أبو دريد مثقّل الشرب على الغداء، وحين يصحو من السكرة سيتنكر لما قاله، بينما سوف يسجل علينا أننا التقينا معه، وممكن ندفع الثمن". استفسرته عن النقطة الأخيرة، فأكد أن أجهزة الأمن سوف تستجوبنا، وربما نتعرض للتعنيف. وهذا ما حصل فعلاً، إذ لم يغادر رفعت حلب حتى حضرت المخابرات العسكرية إلى الجامعة، وحققت مع المشاركين.
أفادني توجس الصديق اللبناني، فأمسكت لساني، ولم أتحدث. استمعت إلى محاضرة رفعت، وكان لدي إحساس بأننا أمام نسخة سورية من العقيد معمر القذافي أو الرائد عبد السلام جلود. فقد كانا يقودان الحكم من داخل المكاتب، ويبطشان بالرأي المخالف، وعندما يخرجان إلى الشارع يتحولان إلى المعارضة، ويدعوان إلى الزحف على المؤسسات التي يطلقون عليها نعوت الرجعية والتخلف والجمود. وحين انتهت المحاضرة وخرجنا من الكلية وجدنا حافلة، تنتظر المدعوين لتقلهم إلى حفل عشاء على شرف القائد في مطعم "ستراند" الفخم المطل على حديقة حلب، وحين وصلنا وجدنا رفعت قد سبقنا إلى هناك، وهو يجلس على رأس الطاولة، بجانبه شاعرة فاشلة صارت ممثلة لاحقاً، وإلى الجهة الأخرى تجلس طالبة من إحدى العائلات ذات الملكيات الكبيرة، وهي ابنة شقيق أحد عسكر النظام الكبار.
اخترت مكاناً أقرب إلى الباب على أمل أن أتسلل بسرعة، وأغادر الحفل ولكن خطتي باءت بالفشل، فقد كان ممنوع على أحد الخروج قبل أن يغادر القائد، ويصبح بعيداً عن المكان، ولذا صار لزاماً علينا أن نتفرج على سهرة حافلة بالابتذال والنفاق، أعطتني فكرة مبكرة عن البذخ والانحطاط والانفصام الذي يمثله رجال الحكم الجديد، الذي لم يكن قد مضى عليهم في السلطة سوى 6 أعوام.
تحققت رؤيا صديقنا اللبناني، وحضر إلى الجامعة عنصر من الأمن العسكري، وطلب مني أن نشرب فنجان قهوة معاً. أراد أن يتعرف على رأيي بأفكار المحاضرة، وسبب صمتي وعدم طرح أي سؤال. بدا له مريباً أني لزمت الحياد، ولم أتفاعل. قلت له إني تفاجأت بأطروحة اليمين واليسار في داخل الحزب الحاكم. هي ليست جديدة فقط، وإنما كشفت عن وجود منابر متعدّدة داخله. سجل على ورقة بيضاء، ما أفدت به، ثم غادر، تاركاً فنجان القهوة الذي دفعت ثمنه، وأنا آمل أن يكون الأول والأخير. ولم يخطر على بال أحد منا أن الهدف البعيد من الأطروحة هو، تصفية مراكز قوى داخل البعث بوصفها محسوبة على اليمين، ومن تولى المهمة هو رفعت.