اتخذت العلاقة بين روسيا ونظام بشار الأسد المخلوع طابعًا اقتصاديًا استراتيجيًا منذ بداية الأزمة السورية، بهدف دعم النظام بعد خسارته مقومات بقائه الأساسية، حيث حصلت الشركات الروسية على امتيازات كبيرة في مجال استكشاف وإنتاج النفط والغاز. جاء القرار الروسي لدعم النظام السابق في مواجهة العقوبات الغربية المفروضة عليه، والتي انسحب على إثرها عدد من شركات النفط والغاز الأجنبية من جهة، وخسارته معظم حقول النفط والغاز التي وقعت تحت سيطرة الميليشيات الكُردية (قبل تأسيس قوات سوريا الديمقراطية) و"الجيش السوري الحر" وتنظيم "داعش" و"جبهة النصرة"، التي كانت تتقاتل فيما بينها أيضًا من جهة أخرى، مما أدى إلى انخفاض إنتاج النفط والغاز في مناطق سيطرة النظام بنسبة 90% حتى نهاية عام 2013. هذا الانخفاض أدى أيضًا إلى تزايد اعتماد نظام الأسد على الواردات النفطية الإيرانية التي بلغت معدل 100 ألف برميل يوميًا، ما وضع جزءًا من الاقتصاد السوري بين فكي الكماشة الروسية-الإيرانية.
استهدف التعاون بين وزارة الطاقة الروسية ووزارة النفط والثروة المعدنية السورية تطوير حقول النفط والغاز السورية، إلى جانب المسح والحفر والإنتاج. بالإضافة إلى مشاريع متنوعة في قطاع الطاقة شملت إعادة تأهيل البنية التحتية وإنشاء مراكز أبحاث علمية، وتكفلت الشركات الروسية بإنشاء البنى التحتية المطلوبة لتسيير الإنتاج. علمًا أن قيمة احتياطات النفط في سوريا تصل إلى 173 مليار دولار في الوقت الحالي، إذا احتسبنا أن سعر برميل النفط الواحد يبلغ 72 دولارًا، فيما يُقدَّر حجم احتياطيات النفط بنحو 2.4 مليار برميل. في حين لا توجد تقديرات دقيقة لنسب احتياطيات النفط والغاز في الساحل السوري، والنسبة الأعلى تعود لمحافظتي دير الزور والحسكة اللتين تحتويان على نحو 70 في المئة من إجمالي الاحتياط، والمحافظتان تقعان تحت سيطرة "قسد" المدعومة من الولايات المتحدة الأميركية.
نهبٌ منظم للموارد
لم تكن الاستثمارات الروسية في قطاع الطاقة كافية لتشهد سوريا تحسنًا في التغذية الكهربائية أو زيادة في الكميات المتوفرة من المحروقات والغاز المنزلي، بل تراجعت جميع الخدمات المتعلقة بالقطاع في مناطق سيطرة النظام قبل إسقاطه عسكريًا، رغم التحسن الطفيف الذي شهده مستوى إنتاج النفط والغاز، ما يشير إلى احتمال وجود نهبٍ منظم لإيرادات القطاع من قبل السلطات السابقة. وتجدر الإشارة إلى أن ممارسات النهب المنظم للموارد النفطية السورية شاركت فيها أيضًا الولايات المتحدة الأميركية، بحسب تقرير نشرته وزارة الدفاع الروسية في تشرين الأول 2019، وفقًا لأدلة قدمتها شبكة مراقبة الفضاء التابعة للوزارة، حيث رصدت عمليات نقل كميات كبيرة من النفط السوري خارج الأراضي السورية تحت حماية القوات الأميركية، مما يشير أيضًا إلى وجود عمليات تهريب تستفيد منها شبكات مرتبطة بالجيش الأميركي في شمال شرق سوريا.
شهدت إيرادات قطاع النفط والغاز في سوريا تراجعًا كبيرًا خلال فترة الثورة والحرب والعقوبات الاقتصادية بين 2011 و2024. في عام 2010، كانت إيرادات الحكومة السورية من النفط والغاز تُقدّر بحوالي 152 مليار ليرة سورية بحسب وزير المالية في سنوات 2003-2011 محمد الحسين، أي 3.04 مليار دولار أميركي، إذا احتسبنا أن الدولار الواحد كان يساوي 50 ليرة سورية. انخفضت الإيرادات بشكل ملحوظ في السنوات التالية، حتى تجاوزت مجمل الخسائر المباشرة وغير المباشرة في القطاع عتبة الـ 100 مليار دولار عام 2022 بحسب وزارة النفط السورية. أما الأضرار اللاحقة بقطاع الكهرباء السوري فتقدّر بنحو 40 مليار دولار من التكاليف المباشرة و80 مليار دولار من التكاليف غير المباشرة.
وفق إدارة معلومات الطاقة الأميركية (EIA)، فقد أنتجت سوريا نحو 383 ألف برميل يوميًا من النفط والسوائل قبل فرض العقوبات الاقتصادية. وبحسب تقرير لمعهد الطاقة البريطاني (EI) للعام 2024 (ص 23)، فقد انخفض هذا الإنتاج حتى عام 2023 إلى 40 ألف برميل يوميًا، بعد أن شهد تحسنًا طفيفًا خلال السنوات القليلة الماضية، إذ وصل أدناه عام 2018 حيث سجل معدل الإنتاج 24 ألف برميل يوميًا. أما إنتاج الغاز الطبيعي (ص 39) فانخفض من 8.7 مليار متر مكعب في عام 2011 إلى 3 مليارات متر مكعب في عام 2023.
وأشار وزير النفط والثروة المعدنية في الحكومة السورية المؤقتة غياث دياب في 30 كانون الأول 2024، نقلاً عن الوكالة العربية السورية للأنباء (سانا)، إلى أن "قطاع النفط في سوريا يعاني بعد سقوط النظام البائد من صعوبات وتحديات عدة تشكل عائقًا في تأمين المشتقات النفطية"، وأن "عددًا من الآبار النفطية لا يزال خارج إدارة الدولة السورية".
الشركات الروسية
في كانون الأول 2013، وقعت الحكومة السورية العقد الأول بعد بدء الأزمة مع شركة "سويوز نفت غاز" الروسية للتنقيب واستخراج الغاز لأول مرة في المياه السورية في المنطقة رقم 2 قبالة القاعدة البحرية الروسية في طرطوس، أي في منطقة آمنة تمامًا، حيث تحملت الشركة تكاليف الإنتاج في مساحة تجاوزت 2000 كم مربع، بحيث تُحسم التكاليف الإجمالية للمشروع من الإيرادات التي تحصل عليها الشركة والتي قُدِّرت بـ 20 في المئة، إضافة إلى مشروعين على الحدود البرية مع العراق وتركيا، وذلك لمدة 25 عامًا. لكن الشركة لم تتمكن من الوفاء بالتزاماتها تجاه الحكومة السورية، وأوقفت عملها بعد عامين فقط، بحجة الأخطار المرتفعة الناتجة عن الحرب، نقلًا عن لسان رئيس مجلس إدارة الشركة يوري شافرانيك.
لاحقًا، في كانون الأول 2019، أقر مجلس الشعب السوري الموافقة على عقود جديدة مع شركتي "ميركوري" و"فيلادا" الروسيتين تشمل التنقيب والإنتاج في البلوكات رقم 7 و19 و23، في مساحة تمتد إلى 11,690 كم مربع. وفي عام 2020، وقعت الحكومة السابقة عقدًا جديدًا مع شركة "كابيتال المحدودة" الروسية للتنقيب عن النفط في البلوك البحري رقم 1 قبالة سواحل طرطوس وصولًا إلى الحدود البحرية مع لبنان، في مساحة تصل إلى 2,250 كم مربع ولمدة زمنية تتجاوز 30 عامًا. وفي العام نفسه، افتتحت شركة "إس تي جي تكنولوجي" الروسية فرعًا لها في دمشق لتقديم خدمات ضمن قطاعي الطاقة والتعدين، ومُنِحت شركة "تاتنفت" الروسية امتيازًا جديدًا لاستئناف التنقيب عن النفط في مواقع عديدة.
في الوقت الذي وسعت فيه شركات روسية تواجدت على الأراضي السورية قبل عام 2011 نطاق أعمالها في السوق النفطية، مثل شركتي "أورال تكنو ستروي" و"آر إم إن تيخنو" لتطوير الصناعة النفطية وإنشاء مصافي النفط ومعامل الغاز ومحطات التجميع، تستثمر شركات روسية أخرى، بعضها حكومية تابعة لوزارة الطاقة الروسية، في أعمال التنقيب عن النفط والغاز وتطوير الحقول والبنى التحتية وتقديم الخدمات الفنية والتقنية مثل "تكنو بروم إكسبورت" و"إس آي جي إنجينيرينغ" و"زاروبيزهنفت" و"زاروبيج جيولوجيا" و"تيخبروم إكسبورت" و"يورو بوليسي". علمًا أن بعض الشركات، وفي أكثر من قطاع، جمّدت تعاملها مع السلطات الجديدة بسبب تراكم الديون على الجانب السوري.
مصير العقود
في حديث خاص مع "المدن"، أشار مستشار رئيس الجمهورية اللبنانية السابق للشؤون الروسية، النائب السابق أمل أبوزيد، إلى "عدم وجود مؤشرات واضحة حتى الآن تدل على رغبة النظام الجديد في سوريا في تغيير أو إلغاء الاتفاقات المعقودة مع الشركات الروسية". وأوضح أن هذا الوضع لا يعني أنه لن تكون هناك مطالبات في المستقبل لإعادة النظر في تلك الاتفاقات، مشيرًا إلى أن الموضوع يرتبط بمستقبل العلاقات الروسية-السورية ومدى تطورها.
كما أكد أبو زيد على "أهمية الوضع القانوني للسلطة الجديدة، حيث توجد عقوبات مفروضة من قبل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة على هيئة تحرير الشام وغيرها من المنظمات العسكرية". وذكّر أن روسيا، بصفتها عضوًا في مجلس الأمن، تمتلك حق النقض (الفيتو)، مما يمنحها نفوذًا كبيرًا فيما يخص رفع العقوبات الدولية المفروضة على سوريا، بالإضافة إلى رفع اسم "هيئة تحرير الشام" من قوائم الإرهاب الدولية، ما يمكن أن يمثل "ورقة ضغط ستستخدمها روسيا للحفاظ على العقود النفطية الموقعة."
تواجه الحكومة المؤقتة قيودًا قانونية تحد من صلاحياتها فيما يتعلق بإلغاء أو تعديل عقود النفط والغاز مع الشركات الأجنبية. ورغم سعيها لاستعادة الشرعية الدولية، فإنها تواجه ضغوطًا سياسية واقتصادية قد تؤثر على أي قرار تتخذه في هذا المجال. وفي هذا السياق، أشار الكاتب والمحلل السياسي السوري عمار ديوب لـ "المدن" إلى أن "الحكومة المؤقتة بمثابة حكومة تصريف أعمال، لا تملك صلاحيات تخولها إلغاء أو تعديل أي اتفاقيات قديمة، أو حتى إبرام أي اتفاقيات جديدة. إن هذه الحكومة لا تملك سوى الشرعية الثورية، ولا شرعية دولية لها، لذا يجب أن تتشكل حكومة انتقالية كاملة الصلاحيات معترف بها أمام القوانين الدولية."
وأضاف ديوب: "المرحلة الحالية ليست مرحلة انتقالية بل هي مرحلة أمر واقع. وجود السلطة الحالية هو بحكم الأمر الواقع بعد أن فرضت نفسها كقوة عسكرية. والمرحلة الانتقالية لن تبدأ قبل أن تتشكل حكومة انتقالية. هذه الخطوة في الوقت الحالي رهن بمؤتمر الحوار الوطني الذي يسعى بدوره لاكتساب الشرعية، والذي يمكن أن تنبثق عنه هيئة تختار الحكومة الانتقالية. فقط آنذاك يمكن لحكومة تمتلك صلاحيات كافية أن تقوم بإلغاء أو تعديل أو إبرام أي عقود أو اتفاقيات."
لكن كل ما سبق لا يعني أن الحكومة المؤقتة الحالية غير معنية بملف عقود النفط والغاز. فالشركات الروسية لا تزال المتعاقدة مع الحكومات السورية السابقة، بالإضافة إلى الشركات الأجنبية الأخرى، تنتظر إصدار تصريحات بشأن العقود الموقعة، وكذلك إشارات حول طبيعة السياسات والمسارات التي يمكن أن تتبعها السلطة السورية المنتظرة بعد دخول البلاد في مرحلة الاستقرار السياسي والأمني، بخاصة أن وزير النقل في الحكومة المؤقتة، بهاء الدين شرم، أعلن في 30 كانون الأول 2024 أن الحكومة بصدد إعادة دراسة العقود الموقعة مع الشركات الروسية لاستثمار الموانئ في سوريا. هذا فيما تسعى دول وشركات جديدة، وبخاصة دول مجلس التعاون الخليجي والعراق وتركيا، إلى دخول السوق السورية للاستثمار في قطاع الطاقة، أو المشاركة في مساعي إعادة الإعمار بهدف الحصول على امتيازات من السلطات السورية الجديدة، خاصةً فيما يتعلق بمشاريع خطوط الأنابيب الدولية لنقل وتصدير النفط والغاز والهيدروجين.