2025- 01 - 13   |   بحث في الموقع  
logo موظفو مستشفى الحريري ينفذون اعتصاماً مفتوحاً logo إله البحار الجنبلاطي الذي حيّر اللبنانيين logo السنيورة بحث في الاوضاع مع السفير المصري logo تكتل “لبنان القوي” يسمي نواف سلام لرئاسة الحكومة logo كتلة “اللقاء الديمقراطي” تسمي نواف سلام لرئاسة الحكومة logo كتلة “الاعتدال الوطني” تسمي نواف سلام لرئاسة الحكومة logo وزير الشباب والرياضة: سنكرّم هادي حبيب logo الجولة الثانية من الاستشارات: باسيل يحسم مصير التكليف
العلمانية الفرنسية بين النظرية والتطبيق
2025-01-13 10:55:46


بدأت حياتي المهنية كموظف في مكتب ثقافي فرنسي أقيم في مدينة حلب. وهو كان بمثابة مركز ثقافي، لكن تمشيًّا مع القيود المفروضة أمنيًا، تمت تسميته بالمكتب الثقافي. وكانت من مهامه تعزيز العلاقات العلمية بين البلدين كما تنظيم المحاضرات والمعارض، وأخيرًا، تسهيل إجراءات الدراسة في فرنسا للراغبين بمتابعة تحصيلهم العالي. ومن ضمن تفاصيل المهام المنوطة بالمكتب، كان التصديق على أوراق مترجمة تتعلق بالأمور الجامعية. واستمر التصديق يتم بالمجّان، إلى أن قررت الإدارة المالية أن يتم تطبيق تعرفة رمزية على التصديق. وذات صباح، جاءني خريّجٌ جديد يسعى لمتابعة الدراسة في فرنسا طالباً تصديق ملفه. وعندما أشرت إلى أن التصديق صار مدفوعًا، ابتسم ومال على أُذني قائلاً: "بس أنا مسيحي". تعاملت مع هذا الموقف الغريب بهدوء شديد مانحًا نفسي فرصة تذكير الشاب بالثورة الفرنسية سنة 1789 وبالجمهورية العلمانية التي حسمت النقاش بقانون واضح وصريح صدر سنة 1905 وأزال أي بعد ديني عن الإدارة والتعليم. تجاوب الشاب مع كثير من التحفّظ الذي بدا على وجهه. وبعد تجاوز الموضوع واعتباره "طرفة" من قبلي ومن قبل زملائي الفرنجة، وصلت للمكتب شحنة من أجهزة الكومبيوتر مقدمة من بلدية إحدى المدن الفرنسية، والتي كان يرأس مجلسها البلدي وزير الداخلية حينذاك شارل باسكوا. هممنا بالتواصل مع المدارس لمعرفة احتياجاتها وتقدير نسبة التوزيع بين مختلف أحياء المدينة. وفي زحمة البحث نسينا أن نقرأ كامل الرسالة التي أُرفِقَت بالشحنة. وبعد أن وضعنا جدولاً بأسماء المدارس، عدنا الى تفاصيل الرسالة تطفلاً، ففوجئنا بعبارة بارزة محاطة بإطارٍ واضح تُحدّد تفصيلاً يتعلق بالمدارس المستحقة. لقد ورد في العبارة "هذه الأجهزة مخصصة للمدارس المسيحية". وبالطبع، أوقفنا المسار وأرسلنا رسالة للمرسل نرفض من خلالها القيام بهذه المهمة حيث قمنا بتذكيره بمبادئ الجمهورية وبقوانينها.في مرحلة متوسطة من حياتي المهنية، تم تكليفي بالتأسيس لفرع حلبي من معهد أبحاث فرنسي عريق، تغطي أعماله ونشاطاته جميع دول الشرق الأدنى. سرعان ما قام أحد أبرز الشخصيات العامة في المدينة بالتوجه إلى السفير الفرنسي معاتبًا على اختيار شاب (كنت ذاك الشاب حينذاك) "مسلم" لإدارة مركز فرنسي. فما كان من السفير الصديق إلا أن نهره مُذكّرًا إياه بأن فرنسا عرفت ثورة للتخلص من سيطرة الكنيسة وبأن الجمهورية التي يُمثّلها علمانية التوجه. وقبل نهاية خدمتي بأشهرٍ بعد مرور ست سنوات على تأسيس المركز، اتصل بي سفير فرنسا الذي كان حينذاك وهو غير الصديق الأول، وأعلمني بأنه يود مني الإعداد لحفل منح ميدالية فرنسية لي ولأربعة من الراهبات في المدينة مقابل انجازاتنا في تعزيز العلاقات العلمية والثقافية بين البلدين. وبما أن المركز كان يتمتع بإطار تقليدي جميل، فقد اقترح سعادته أن نستضيف الحفل وأن أدعو من أريد من المعارف للمشاركة في هذا الحفل. وبعدما قمت باللازم، وبدأ الحفل، استهل السفير المناسبة بالإشارة إلى أسماء المكرمين. لقد ذكر أسماء الراهبات وأنهى حديثه. استغرب الحضور ذلك، خصوصًا بأنهم على علم مسبق بقائمة المكرمين عبر بطاقات الدعوة. وعندما أشار إليه أحد مساعديه إلى أنه قد أغفل اسمي، اكتفى بالقول "تبًّا، لقد نسيناه". واستدار نحوي بابتسامة خبيثة قائلاً "العام المقبل إن شاء الله".نماذج حصلت معي شخصيًا أردت سردها لمحاولة التفكير بصوتٍ عالٍ، والسعي للبحث عن إجابة على الاستفسار الذي لا يفتأ يُطرح حول طبيعة علمانية الدولة الفرنسية وشخوصها. كما وحول ما إذا كانت هذه العلمانية دينًا بحد ذاته مع ما يضمّه أي دين أو عقيدة من معتدلين أو متطرفين، أم أنها انتقائية تُشهر في وجه فئة بذاتها بعيدًا عن الإحاطة بمختلف زوايا المشهد الناظم للعلاقة بين الدين والدولة؟ من يُتابع يوميات المشهد الداخلي الفرنسي، يكاد يقع في ظنٍّ تُعزّزه كثيرٌ من العناصر الدالة، يدور في رحاب الاعتقاد بأن مبادئ العلمانية تبرز وتتعزّز حينما يخص النقاش عادات وممارسات ولباس مسلمي هذا البلد، وخصوصًا منهم الفقراء أو متوسطي الحال. أما الأغنياء، فلهم ما يريدون ما داموا مصدرًا ماديًا مرغوبًا. محليين كانوا أم أجانب.
الصراع مستمرٌّ إذًا في العقلية والممارسة، فرنسيًا على الأقل، بين حنين البعض لفرنسا ما قبل ثورتها وبين من يتبنّى فكرة فصل الدين عن الدولة بجدارة وبين من يميل إلى الممارسة الأولى أو الثانية حسب المستهدفين وحسب الحاجة.شهدت دمشق في الثالث من كانون الثاني/ يناير الماضي زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو برفقة وزيرة الخارجية الألمانية. ولقد استهل زيارته بلقاء رجال الدين المسيحي دونًا عن أي ممثلين آخرين للأديان والمذاهب الأخرى، حتى دونًا عن ممثلي "الأقليات" الأخرى، كما يحب الفرنسيون تسميتهم. الرسالة كانت واضحة إذًا. فرنسا معنية بحقوق السوريين جميعهم، ولكنها تعطي الأولوية للمسيحيين بمختلف طوائفهم. وفي هذا التصرف تعزيزٌ لعقلية الطالب الذي رغب بالحصول على خدمة مجانية لأنه مسيحي. كما فيها طمأنة للذي اعترض على تسمية مسلم مديرًا لمعهد أبحاث فرنسي بأن ظنّه في مكانه. أما من نهل من فكر عصر التنوير وغاص في فكر فولتير وروسو وديدرو، وآمن بجول فيري، فعليه أن يُميّز بين النظرية والتطبيق.


المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2025
top