مع انتشار أخبار سقوط النظام، لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دوراً محورياً في نقل الأخبار والتوثيق الفوري، وانتشرت آلاف الصور ومقاطع الفيديو لتوثيق لحظات فارقة في تاريخ سوريا، مثل احتفالات السوريين في الشوارع عند وصول قوات المعارضة، وإطلاق سراح السجناء من سجن صيدنايا، وهروب عناصر النظام، وغيرها من المنشورات عن هروب بشار الأسد وانهيار منظومته الأمنية والسياسية، ما أثار مشاعر متباينة بين الفرح والقلق.
وفي ظل هذا السيل من تدفق الصورة، وتوقف مؤسسات الإعلام الرسمي، التي بقيت لعقود تضخ دعاية النظام، عن العمل، واختفاء أبواقها من الشاشات، وعدم وجود مصدر موثوق يمكن الرجوع إليه باستثناء الإعلام الخارجي، بدأت الجوانب السلبية لهذا الضخ غير المسبوق من الصورة، من أماكن مختلفة من سوريا تظهر على شكل تخوفات، وأخبار مضللة. وساهمت في تفاقم حالة الفوضى في البلاد، حيث انتشرت مشاهد النهب البنك سوريا المركزي، وإتلاف وثائق مهمة واقتحام القصور الرئاسية والاستيلاء على محتوياتها، وإطلاق النار في الشوارع والساحات، وغيرها.هذه الأحداث وثقتها عدسات الهواتف المحمولة وجرى تداولها بشكل واسع في مواقع التواصل كما كان الحال طوال سنوات الربيع العربي الذي لعبت فيه الهواتف ومواقع مثل "فايسبوك" دوراً محورياً، لكن اليوم، مع حدث بحجم سقوط نظام الأسد، برزت تساؤلات حول مصداقية المحتوى المتداول، من طرف أفراد عاديين وخبراء في مجال التدقيق في المعلومات.والحال أن السهولة التي يمكن بها نشر المعلومات عبر السوشال ميديا جعلت من الصعب التحقق من مصداقيتها، ما أدى إلى تضارب في الروايات حول الأحداث، خصوصاً في الأيام الأولى للحدث، علماً ان النظام السوري أفرغ البلاد من الصحافيين المستقلين بعد ثورة العام 2011 واعتمد على "الإعلام المقاوم" لإيصال وجهة نظره عما يجري من أحداث. وبرز في هذه الفترة مراسلو "تلفزيون سوريا" الذين استطاعوا تغطية الحدث السوري بعد سيطرة قوات المعارضة.وخلال الأسابيع التي تلت سقوط النظام، وهروب الأسد إلى موسكو، واختفاء أجهزته الأمنية والمسؤولين عن ماكينته الدعائية ممن بقوا حتى اللحظات الأخيرة ينشرون الأكاذيب، أصبحت سوريا ساحة مفتوحة للمعلومات المضللة وخطاب الكراهية عبر منصات التواصل الاجتماعي. وأدى غياب المصادر الموثوقة إلى انتشار الأخبار الزائفة، مثل تقارير مفبركة حول حوادث طائفية، ما زاد من حالة التوتر.ولعبت خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي دوراً بارزاً في تعزيز ذلك الانتشار لأنها تساهم في نشر المحتوى العاطفي أو الذي بحصد تفاعلا كبيراً بغض النظر عن صحته، ودفعت المستخدمين نحو ما يُعرف بـ"غرف الصدى"، حيث يتم تكرار الروايات نفسها بشكل يعزز الاعتقاد بصحتها، ويساهم في زيادة الانقسام الاجتماعي، فيما كان هنالك ميل لنشر مقاطع فيديو قديمة أو غير دقيقة، من أجل نشر الفتنة في فترة حساسة سياسياً.وفي ظل الفوضى الإعلامية، برز دور "الإعلام السوري البديل" كأداة لمحاولة استعادة الثقة بين الجمهور، وهو مصطلح يشير إلى وسائل الإعلام السورية التي نشأت في المنافي وكانت تعمل منذ سنوات على الشأن السوري، كما باتت منصات التدقق من المعلومات مثل "تأكد" و"مسبار" أصبحت مرجعاً للتحقق من الأخبار والمعلومات، فيما كان ناشطون مثل جميل الحسن يحصدون تفاعلاً واسعاً بسبب تقارير مهمة خصوصاً عن الوضع الإنساني في مناطق مثل إدلب، كما ظهرت أيضاً صفحات ساخرة مثل "الست جاكلين"، التي علقت على الأحداث الجارية بطريقة فكاهية جذبت جمهوراً واسعاً، وساهمت في نشر فكر التسامح وقدمت نصائح تدعو فيها إلى الوحدة بين الأديان ونبذ الطائفية، وحصلت على تفاعلات بملايين المشاهدات في أقل من شهر.والحال أن الانتشار الممنهج للأخبار المضللة لم يكن عشوائياً، بل أشار تحليل رقمي أجرته منصة "إيكاد" المتخصصة في تحقيقات المصادر المفتوحة إلى وجود حملة منظمة واسعة النطاق استهدفت تشويه صورة المعارضة السورية، بدأت قبل الإعلان عن سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر، وامتدت لتطاول منصات ومواقع في دول متعددة، حيث يتركز الرأي العام المتابع للشأن السوري. وكانت تلك الحملة آتية من حسابات إسرائيلية وروسية وإيرانية، بهدف تحريف الحقائق وشن هجوم منسق على المعارضة السورية عبر مواقع التواصل الاجتماعي.إلى جانب ذلك، كانت الأخبار التي نشرها النظام ومواليه بعد سقوطه تهدف إلى تأليب الناس ضد بعضهم البعض. ركزت هذه الأخبار على قضايا الأقليات الدينية والطائفية، وسعت إلى خلق حالة من الخوف والقلق حول مصير سوريا. رغم ذلك، لم تغير هذه الأخبار من نتيجة الأحداث على الأرض، لكنها ساهمت في تعزيز الانقسامات وإثارة مخاوف من المجهول، حيث استخدمت كأداة لتوجيه الانتباه بعيداً عن القضايا الحقيقية المتعلقة بالعدالة والمساءلة.وتجربة سوريا ليست فريدة من نوعها، بل شهدت دول أخرى أزمات مشابهة استخدمت فيها وسائل التواصل الاجتماعي كأداة لنشر التضليل الإعلامي وتأجيج الصراعات. في ميانمار خلال أزمة الروهينغا العام 2017، استُخدم "فايسبوك" لنشر خطاب الكراهية والتحريض على العنف، ما أدى إلى كارثة إنسانية ومجازر جماعية. وفي الولايات المتحدة، أثناء الانتخابات الرئاسية العام 2016، نُشرت روايات كاذبة عبر وسائل التواصل أثرت على توجهات الناخبين وزادت من حدة الانقسام السياسي. أما في الهند العام 2018، فانتشرت شائعات في "واتساب" حول اختطاف أطفال، ما تسبب في حوادث عنف وقتل جماعي استهدفت أبرياء بناءً على معلومات مضللة.تُظهر هذه الأمثلة أن التضليل الإعلامي لم يكن مجرد مشكلة محلية، بل نمطاً عالمياً. وتتطلب مواجهة تحديات المعلومات المضللة في سوريا بالتالي، نهجاً شاملاً يتضمن عدة خطوات مترابطة، من أبرزها على المدى البعيد تعزيز التعليم الإعلامي بين مختلف فئات المجتمع، بدءاً من المدارس والجامعات، لتعليم مهارات التفكير النقدي وتحليل المعلومات. ويمكن لهذا التعليم أن يزود الأفراد بالقدرة على التمييز بين الأخبار الحقيقية والمضللة، ما يعزز قدرتهم على التصدي لمحاولات التضليل.ويتطلب العمل على تنظيم الإعلام الرقمي لضمان شفافية ومساءلة المحتوى المنشور على المنصات المختلفة، وضع إطار قانوني يحدد مسؤوليات الجهات الناشرة، سواء كانت أفراداً أو مؤسسات، ويضع عقوبات واضحة لمن ينشرون أخباراً كاذبة أو مضللة، كما أن تطوير أدوات تقنية يعتمد على الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون حلاً فعالاً لتحديد الأخبار الكاذبة وفلترة المحتوى الضار، لأنها تستطيع تحليل المحتوى المنشور على نطاق واسع بسرعة وكفاءة، ما يساعد على تقليل انتشار الأخبار المزيفة.كما أن دعم منصات التحقق المستقلة من خلال توفير تمويل مستقل وضمان وصولها إلى أحدث الأدوات التقنية، يجعلها تلعب دوراً محورياً في تعزيز الوعي الإعلامي وتقديم الحقائق بشكل موضوعي، خصوصاً بعدما تبنت شركات وسائل التواصل قوانين تعزز انتشار المعلومات الخاطئة بما في ذلك "ميتا" التي أعلنت إنهاء العمل بنظام التحقق من المعلومات فيها، هذا الشهر.ويمكن للتعاون الدولي مع المنظمات المعنية بمكافحة التضليل أن يساهم في نقل الخبرات وبناء القدرات المحلية عبر برامج تدريبية للصحافيين وصناع المحتوى وأيضاً مستخدمي وسائل التواصل العاديين، وتبادل أفضل الممارسات في مجال مكافحة الأخبار الكاذبة.