انفرد موقع قناة "روسيا اليوم"، بنشر خبرٍ بعنوان "بعد أقل من 24 ساعة من صدوره.. الإدارة السورية الجديدة تتراجع عن قرار أثار ضجة واسعة في عموم البلاد". ووفق الخبر المزعوم، فإن قناة "غرفة عمليات ردع العدوان" على "تيلغرام" التابعة للإدارة السورية الجديدة، قالت إنه سيتم تعديل قائمة الضرائب والجمركة بسوريا، غداً صباحاً (صباح الأحد)، وإلغاء القرار السابق، وإصدار قرار جديد.بحثنا مطوّلاً عن الخبر المزعوم على المعرّفات الرسمية التابعة للدولة السورية، وأبرزها معرّفات وكالة "سانا" على "فيسبوك" و"تيلغرام"، من دون أن نجد له أثراً. كذلك بحثنا عن قناة "ردع العدوان" على "تيلغرام"، فوجدنا العديد من القنوات، بعضها كان من الواضح جداً أنها ملفقة، وبعضها الآخر يعيد نشر ما تنشره "سانا"، من دون أن نجد ما يؤكد أنه يمثّل الإدارة السورية الجديدة، بالفعل. لكن لم نجد في أيٍ من هذه القنوات –حتى تلك التي من الواضح أنها ملفّقة- خبراً يتحدث عن إلغاء قوائم التعرفة الجمركية الصادرة أمس السبت. مع الإشارة إلى أنه سبق لـ "سانا" أن حذّرت من انتحال قنوات على "تيلغرام" للصفة الرسمية، والحديث باسم الإدارة السورية الجديدة.
وكان من الملفت في خبر "روسيا اليوم" المزعوم، تركيزها على تقديرات "متابعين"، بأن "نسبة الارتفاع في التعرفة الجمركية ما بين 100 إلى 500% من سعر السلعة". وعلى انعكاس ذلك سلباً على المشهد الاقتصادي والشعبي في شمال غرب البلاد.ومنذ سنوات، تتهم دول غربية بصورة رسمية، روسيا، باستخدام التضليل الإعلامي، عبر وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، بوصفه "سلاحاً ناعماً" لزعزعة الديمقراطيات. وبهذا الصدد، تكفي الإشارة، كمثال، إلى التحقيقات المكثّفة التي أطلقتها السلطات الأميركية في أيلول/سبتمبر الفائت، قبيل الانتخابات الرئاسية، حول تلقي شركة مقرها ولاية تينيسي، مبلغاً بقيمة 10 ملايين دولار من قناة "روسيا اليوم"، لتمويل إنتاج وتوزيع محتوى إعلامي يحمل رسائل حكومية روسية خفية، موجهة للجمهور الأميركي، تركز على دعم روايات يمينية حول قضايا الهجرة، الهوية الجنسية، والاقتصاد.
وبالعودة إلى الخبر المزعوم، موضوع المقال، فإنه، وحتى ساعة كتابة هذه السطور، لم يصدر أي خبر من مصدر رسمي، يدعم رواية إلغاء قائمة الرسوم الجمركية الصادرة أمس السبت. لكن يمكن القول إن "روسيا اليوم"، استغلت أخطاء منهجية في تواصل الإدارة الجديدة في دمشق مع الجمهور السوري، لتمرر واحدة من رسائل التضليل الخاصة بها، علّها تفعّل الاستياء واسع النطاق، في شمال غربي سوريا، باتجاه إثارة البلبلة والاحتجاج، وصولاً ربما إلى اضطرابات محتملة.فيوم السبت، اتخذت حكومة تصريف الأعمال بدمشق، واحداً من أكثر قراراتها الموسومة بغير الشعبية، على نطاق واسع. وذلك بدوافع اقتصادية وتمويلية يمكن تفهمها. لكن طريقة إخراج القرار، شابتها تلك الأخطاء المنهجية ذاتها، التي طبعت معظم قرارات الإدارة السورية الجيددة، منذ جلوسها على سدة الحكم بالعاصمة السورية، قبل أكثر من شهر. وفيما كانت كل القرارات السابقة، تثير جدلاً أكثر نخبوية بين السوريين، كان القرار الأخير مرتبطاً مباشرة بمعيشة السوريّ، ففجّر جدلاً هو الأعنف والأكثر كثافة وانقساماً بين عموم هذا الشعب.ونحن هنا لن ننتقد القرار ذاته، أي فرض تعريفات جمركية بنسب متفاوتة. ولن نتناول الانتقادات التي طالت القرار، من مختصين. كما أننا لن نتطرق إلى حجج المدافعين عنه، وبعضهم مختصون أيضاً. إذ كل طرف ينظر لهذا القرار من زاوية محددة، في ظل تضارب غير مسبوق في المصالح بين مكونات الشعب السوري، مناطقياً، وطبقياً، وفئوياً. الأمر الذي يعقّد المشهد أمام حكومة تصريف الأعمال، ويجعلها أمام تحديات، لا تُحسد عليها، في ظل حالة أشبه بالإفلاس في الخزينة العامة، وخيارات مرّة، بين الجباية من الداخل لتمويل مؤسسات الدولة، أو الاستناد الحصري إلى الدعم الخارجي وأثمان ذلك من ارتهان له. وبين خيار ثالث، يوازن بين الخيارين السابقين، قدر المستطاع.أما مواضع الانتقاد، فأبرزها، تلك الضبابية والغموض غير البنّاء الذي يشوب معظم مقدّمات ومخرجات النشاط الحكومي في الفترة الماضية. فمثلاً، يصعب على الكثيرين إيجاد القائمة الرسمية الدقيقة للرسوم الجمركية الجديدة. وفيما تجد كلاماً عمومياً يخلو من التفاصيل، عبر معرّفات الدولة "الرسمية"، كما في حال تصريحات مدير العلاقات في الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية، مازن علوش، بخصوص نشرة الرسوم الجمركية الموحدة الصادرة يوم السبت، تُترك تفاصيل هذه الرسوم، للشائعات والمعلومات الخاصة لوسائل الإعلام غير الرسمية. بصورة تُصعّب على المتخصص إمكانية تقييم تفاصيل هذا القرار. فالتقييم العمومي، بين إيجابي بالمطلق، أو سلبي بالمطلق، لا يصلح مع اختلاف المواد، واختلاف نسب الرسوم الجمركية عليها.
يُضاف إلى ما سبق، غياب الحوار مع الجمهور الداخلي، بخلاف التركيز على الحوار مع الخارج. وهو خطأ منهجي بدا راسخاً في أداء الإدارة الجديدة في الأسابيع الفائتة، لينعكس اضطراباً واستياءً عارماً في بعض المناطق السورية –الشمال الغربي- مع أول قرار اقتصادي غير شعبي، تُصدره الإدارة عبر حكومتها. فقرار بحجم توحيد الرسوم الجمركية في مناطق تكيّفت اقتصادياتها على مدخلات وبنى اقتصادية متعارضة بصورة كبيرة، كان يتطلّب تمهيداً وشفافية وشرحاً وافياً، وحواراً مجتمعياً، يُشرك جميع الأطراف المعنية، من التجار مروراً بالصناعيين، وليس انتهاءً بجمعيات حماية المستهلك، وبعض ممثلي المجتمع المدني. وتعليقاً على ذلك، قد يعلّق أحدهم، كما جادل كثيرون، أن الوقت لا يتيح للإدارة هذه "الرفاهية"، وسط الحاجة الملحة لتمويل الخزينة لإبقاء القدرة على تحريك مؤسسات الدولة، قائمة بالحد الأدنى. وبهذا الصدد، كان يمكن على الأقل، إعلام المعنيين (التجار بصورة خاصة) في شمال غربي سوريا، بالقرار، على أن يدخل حيز التنفيذ بصورة تدريجية، أو بعد حيز زمني مناسب، يتيح عدم الإضرار بالفعاليات الاقتصادية في مناطق بعينها. وهي مناطق تقطنها شريحة من الأكثر هشاشة بسوريا، في مخيمات الشمال. وتذهب تقديرات إلى أن تعداد السكان في تلك المنطقة يتجاوز 6 ملايين نسمة.بطبيعة الحال، للقرار مبرراته، كما أوضحنا. ويمكن تفهمه، من زاوية اقتصادية متوسطة وبعيدة الأمد. ومن زاوية الحاجة التمويلية لخزينة الدولة. لكن تبقى المعضلة في كيفية إخراج هذا القرار، وما سبقه من قرارات أيضاً. وهو ما يجعل الساحة متاحة لأمثال "روسيا اليوم"، كي "تصطاد في الماء العكر". المطلوب ببساطة، قنوات تواصل شفافة، وتفاصيل مكشوفة عبر المعرّفات الرسمية. وتواضع من جانب حكومة تصريف الأعمال، يجعل مسؤوليها يخاطبون الشارع مباشرة، عبر إطلالات تليفزيونية مطوّلة، تشرح مبررات وخلفيات كل قرار، بدلاً من فوضى الأخبار والشائعات في وقت لا تحتمل فيه البلاد أي خضّة أمنية أو مجتمعية.