مرّ خبر إغلاق المعهد الموسيقي في حلب، أو ما يعرف بمعهد صباح فخري للموسيقا سريعاً، من دون أن يلحظه أحد في الأوساط الثقافية، ولولا أن معارضي الإدارة السورية الجديدة نفخوا بالقصة، متهمين إياها بأن إغلاقه يستند إلى خلفية أيديولوجية دينية تحرّم الموسيقى، لما انتشر الخبر!
مع ذلك، استمر التجاهل، بعدما ثبت أن الإغلاق قضية قانونية، تتعلق بملكية المبنى الذي يشغله المعهد. ومضت التفاصيل نحو الأرشفة والتلاشي، في واقع تتسارع فيه الأخبار، ولا تتكرس القضايا، إلا إذا تصدت لها مجموعة أو فئة للاحتجاج، أو الدفاع عنها.
مشكلة معهد حلب، تبدو في إطارها العام قضية ثقافية تعليمية، فهذا المعهد كغيره يتبع وزارة الثقافة السورية، الغائبة حالياً، حيث لم يُكلف أحد لتولي مقعدها في الحكومة الراهنة.
ورغم أن مؤسساتها تعمل بإيقاع بطيء، فإنها لا تزال قائمة، تنتظر من يوجهها نحو قضاياها وشؤونها، لكن هذا الوضع لا يجب أن يؤدي إلى تجاهل مسائل مصيرية، طالما أن القضايا الثقافية ليست ملكية مسجلة، باسم المؤسسات المعينة للاهتمام بهذا الشأن، بل هي فضاء ومجال شرائح المثقفين كافة. في مثل هذه الواقعة كان من المفترض أن يتحرك جمع هؤلاء للاحتجاج، لكن شيئاً من هذا لم يحصل، وبدا أن المعهد محور القضية، موضوع خارج مساحة الأرض السورية، ويكاد الحديث الملح عنه على مواقع التواصل الاجتماعي، أن يصبح جرساً، يزعج طنينه أولئك الغارقين بنشوة الانتصار وبالاحتفالات المكررة به! ولا يهتم به أولئك الذين ساءهم رحيل الأسد، فباتوا يتلقفون أي خبر من هذه النوع، لاستخدامه في سياق محاججتهم للآخرين، بأن الحكم الجديد ليس سوى مشروع طالباني، سيحول سوريا إلى أفغانستان جديدة!
(فعالية "رح نبنيها" في حلب)أسوأ ما يظهر حالياً في تفاعلات الحالة السورية بعد اسقاط نظام الأسديين إنما هو غياب المثقفين وبشكل مريب عن المشهد برمته! إذ لم يحظ شاعر، أو كاتب، أو سينمائي، أو مسرحي، أو تشكيلي، أو موسيقي، بزيارة لقصر الشعب، حيث يستقبل قائد الإدارة الجديدة أحمد الشرع زواره، كما أن الفعاليات التي يفترض بالمثقفين أن يعملوا من أجل ازدهارها في فضاءات الحرية، غائبة أيضاً! وسيرى الصحافيون الذين يقومون برصد الشاردة والواردة، من الوقائع السورية، أن متابعة الشؤون الثقافية هنا، غير مجدية، طالما أن إحساسهم يقودهم للاعتقاد، أنهم يزورون بلداً لا يعيش أزمة ثقافية مستدامة بسبب غياب الحريات، وربما لا توجد فيه عملية ثقافية من الأساس!
وحدها حملات المحاسبة، لأولئك الذي قاموا طيلة السنوات السابقة بتأييد نظام البراميل، ما يزدهر في جلسات النقاش بين السوريين! ورغم أن المسألة لا تتعدى الحكي الشفوي أو المنشورات في فيس بوك، إلا أنها صارت هاجساً يؤثر على بعض المثقفين، ممن وجدوا أنفسهم فجأة وسط محاكمات أخلاقية، يتعرضون فيها للتقريع واللوم، بسبب تنويمهم الإرادي لأصوات ضمائرهم، إما خوفاً وإما لا مبالاةً، وصار من الواجب عليهم الاستجابة لما يحيط بهم! وهكذا وجدنا البعض يبحث في أرشيفه عن مقالة كتبها، في وقت ما، ذكر فيها اسم زميل معتقل، أو مقطعاً في روايته أو قصيدته يتحدث فيه عن الحرية! لعل ذلك يساهم في التخفيف عنهم، أو يجنبهم عيون المنتصرين الشامتين!
يتوانى المثقفون السوريون، في اللحظة الراهنة، عن تعبئة المساحات التي حُرموا من العمل فيها، بسبب سيطرة الدولة على كل مجالات الحياة والفعالية، ولولا قيام الأخوين ملص، القادمين من فرنسا، بحمل عرض مسرحي إلى أحد مسارح العاصمة، وبعض المدن الأخرى، ولولا قيام مجموعة مسرحيين، بعضهم يقيم في أوروبا، بارتجال فعالية احتفالية مشهدية، تتعلق بالنصر، في حلب، ولولا حفل غنائي دمشقي، جرى قبل أيام، أحياه المغني والملحن القادم من الولايات المتحدة الأميركية وصفي المعصراني، وتحت شعارات النصر أيضاً، لولا كل ما سبق، لكانت الصورة أشد قتامة!
وجود هذه الفعاليات، لا يجعل المراقبين يظنون بأن أبواب الشام المفتوحة ونوافذها المشرعة، ستحمل هواء ينعش الجمهور الذي نشفت عروقه، بسبب تلاشي الفعاليات الثقافية الجادة والمحترمة، البعيدة عن تأثيرات النظام الأسدي، إذ لا تظهر في الأفق أي محاولات للمؤسسات الرسمية، لكسر الجمود الحاصل حالياً، وبالتوازي مع هذا، لا يشعر أحد من السوريين بالحاجة إلى أمسيات أو أصبوحات شعرية أو قصصية، بالإضافة إلى أن الظرف الراهن، وبما يحتاجه من نقاشات فكرية وسياسية، لا يملي على أحد الحاجة إلى إقامة مؤتمرات أو جلسات نقاش منظمة، تُفتح فيها الأوراق المغلقة منذ سنوات، ليمر عليها الضوء وتراها عيون البشر المقموعين ممن منعهم الاستبداد من الاطلاع بحرية على الرؤى المغايرة.
يمكن توصيف المشهد بالسبات الثقافي، لكن هذا ليس إيحاء بالاستمرار على ذات الوضعية، بل هو دعوة لاغتنام الفرصة، لتثبيت دور المثقفين في زمن الحرية، فهل ثمة من يستجيب؟