يدخل جوزيف عون قصر بعبدا وهو لا يدين لأحد بشيء، ولم يُعلِم "أحداً عن كيف"، كما يقول النشيد البيزنطيّ الجميل. بلى بلى، يدين للشعب الذي وثق به، وتمنّى له في سرّه وفي علنه أن يصبح "خادم" الجمهوريّة، كما سمّى نفسه في خطاب القسم. ويدين أيضاً لمناقبه الرفيعة ونزاهته الخلقيّة. لكنّه لا يدين بانتخابه لأيّ من الأحزاب السياسيّة بالرغم من أنّ نوّاب الأمّة، الذين ينتسبون إلى هذه الأحزاب، هم الذين انتخبوه. فهو لم يعقد معهم صفقات طمعاً في منصب، ولم يتملّقهم، ولم يتصرّف كمرشّح حيالهم، إذ لا يتيح له موقعه في قيادة الجيش أن يترشّح، أو أن يتكلّم على برنامجه الرئاسيّ كما طالبه بعضهم. ظلّ العماد أميناً للميزان والحصافة حتّى انفجروا من فرط غيظهم.. عن حقّ طبعاً. فالرجل الذي لم يجدوا مناصاً من انتخابه، بعد طول مراوغة ومخاتلة، لا يشبههم في شيء. والحقّ أنّه لا يشبه إلّا ذاته ومَن تبقّى من "الأوادم" في لبنان.مّن استمع إلى خطاب القسم الذي ألقاه الرئيس في مبنى البرلمان الواقع في ساحة النجمة ولم يتذكّر ثورة 17 تشرين الغرّاء، إمّا غبيّ وإمّا معتوه وإمّا مصاب بقساوة القلب. لقد تحدّث هذا الرجل عن استعادة حلم الدولة التي طالب بها صبايا لبنان وشبابه قبل خمس سنوات. فأحرق المحرِقون خيامهم، وفقأ الفاقئون عيونهم، وغمر الغاز المسيّل للدموع شوارع عاصمتهم كي يأكلوا الصمت ويتقيّأوا الحلم. هل تذكرون أم نسيتم؟
الرجل الذي قال في ساحة النجمة كلاماً على الدولة، وعلى العدل الذي هو أساس المُلك، وعلى حصر السلاح وتفكيك المافيا واجتثاث بؤر الفساد، بقي صامتاً صمت القبور طوال سبع من السنين. من قلب هذا الصمت، لم يسمح للعسكر أن يتدخّل في السياسة، ولم يترك للساسة فرصة أن يتدخّلوا في العسكر. لكنّه ذات يوم من تشرين الأوّل من العام 2019، تمرّد على رؤسائه الموتورين حين أمروه بأن يفضّ ثورة الأحرار بقوّة السلاح، رافضاً أن يطلق النار على الشعب الذي أتى هو منه، حتّى إنّه لم يجد غضاضةً في أن توزّع بنات الثورة وروداً على الجنود حين كان بعضهم يقف مذهولاً من هول الحدث وبعضهم يبكي. لم يكن الرئيس الجديد هو من هدّد المتظاهرين آنذاك، ورسم الخطوط الحمراء، وأطلق شعارات الضغينة الطائفيّة. الذين قاموا بذلك هم إيّاهم الذين حاولوا، حتّى الرمق الأخير، منع الرجل الذي صمت سبع سنوات من دخول البرلمان كي يقسم اليمين ويعلن أنّه خادم الشعب وخادم الجمهوريّة. هؤلاء اليوم مذلولون مهانون. بعضهم يتضوّر حقداً. وبعضهم يدفن رأسه في الريح. وبعضهم يستجدي اللغة فيعاجله اللغو. هذا كلّه حدث على مقربة من مبنى البرلمان في ساحة النجمة حيث تكلّم رئيس البلاد الجديد، معلناً نيّته في أن يسكب زيتاً على جروح ذاكرتنا ويبلسم أخاديد ثورتنا بقصعين من حقول بلادنا المسبيّة بغطرسة المافيا وصلفها. هل تذكرون أم نسيتم؟ هل تذكرون الضوضاء والدخان وسحابة الذعر فوق المآذن وساحات الكنائس؟ هل تذكرون المضروبين والجرحى وصفّارات الإسعاف؟ هل تذكرون الركام الذي ابتلع المدينة بعد الانفجار العظيم؟ هل تذكرون البنات اللواتي تطايرن كفراشات في مهبّ الريح؟ هل تذكرون القهر العصيّ على المفردات في عيون الأمّهات الثكالى؟ هل تذكرون ألكسندرا وجو والياس وثروت؟ هل تذكرون لقمان الذي قتلوه لأنّه كان عالي الجبين، مرتفع الصوت، ولا يخاف الموت؟ هؤلاء كلّهم كانوا في البرلمان حين أنّب رئيس الجمهوريّة الساسة، وتكلّم على المستقبل، وجدّد الوعد بالتغيير. كانوا هناك يحلّقون عالياً، "أعلى وأعلى"، كما كتب محمود درويش: أعلى من رئاسة المجلس، وأعلى من السفراء الذين تقاطروا كي يشاهدوا المشهد، وأعلى من المافيويّين المسحوقين وهم يتعثّرون في مقاعدهم ويلوذون بزجاج هواتفهم المحمولة. كانوا كلّهم هناك: شهداء أو بشر مقتولون -لا فرق- لم يسجّل أحد أسماءهم على جدار متقشّر، ولم يرسم أحد وجوههم في دفتر، ثمّ يدسّ وردةً بين صفحاته قبل النوم. يحلّقون وينظرون إلى بحر بيروت بحنوّ، هاتفين بالبحر: لا تخف أيّها البحر، يا صاحب الغرّة البيضاء والمشلح الأزرق، يا ذاكرة فينيقيا وخِلّ الإغريق وبحيرة الروم وقصيدة العرب ومغنطيس الفرنجة وزنبقة بني عثمان، يا كاتم أسرار المتصوّفة، وحارس تعويذة شيوخ الطريقة، يا قبلة العشّاق ونبض الأحرار وجبين المبدعين. لا تخف أيّها البحر، بل دوزن وقع أمواجك على ناي أصواتنا التي تغلّف بيروت. فها نحن قد جئناك ثانيةً كي نعود إلى المدينة من جديد.