بكلمة مضمونها "مات الملك، عاش الملك"، يعلن زوكربيرغ التغيير الأكبر في نهج إدارة "ميتا" لمحتوي منصاتها، وهي التي تضم فايسبوك وإنستغرام وثريدز.
ترضخ "ميتا" لضغوط المحافظين وتتودد إلى إدارة ترامب الآتية قريبا جداً، حين تعلن تخليها عن آلية "تقصى الحقائق" واستبدالها بنظام "الملاحظات المجتمعية"، وهو النظام المتبع في منصة "إكس" المملوكة لأغنى رجل في العالم، إيلون ماسك. في الانتخابات الأخيرة وضع الكثير من رواد وادي السيليكون، ومن بينهم زوكربيرغ، رهانهم على الديموقراطيين، وبحذر حاول البعض الوقوف على الحياد، مثل رجل الأعمال جيف بيزوس حين رفض أن تدعم جريدة "واشنطن بوست" التي يمتلكها مرشحاً بعينه في الانتخابات الأخيرة، فيما وضع ماسك رهانه على ترامب. مقامرة انتزاع "تويتر" وتحويله إلى "إكس"، وإطلاق العنان للخطابات المتعصبة والذكورية ونزعات الكراهية والزينوفوبيا واضطهاد المهاجرين والأقليات، حصدت نتائج فورية لماسك الذي أصبح الرجل الثاني في الإدارة الأميركية بشكل غير رسمي، يقدم واشنطن أخرى في عالم الثروة. الرجل الأول نفسه قطع الطريق في الاتجاه المعاكس من عالم الأعمال إلى البيت الأبيض.
زوكربيرغ الذي تعهد ترامب في السابق بوضعه في السجن، يغسل يديه من الإدارة السابقة. فبحسبه كانت الانتخابات الرئاسية الأخيرة بالنسبة إليه "نقطة تحول ثقافية تجاه إعطاء الأولوية لحرية التعبير"، أما "العودة إلى الجذور" والالتزام بقيم الحرية الأميركية فكان من الصعب تحقيقهما "على مدار السنوات الأربع الماضية والتي خلالها دفعت حتى حكومة الولايات المتحدة نحو الرقابة". تخفيف القيود يبدو مقتصراً على موضوعات بعينها، هي الهجرة والجندر، لاسترضاء خصوم الصوابية السياسية، لكن لا ضمانة أن تشمل موجة الحريات الحرب في غزة على سبيل المثال. في المحصلة الأخيرة تفتقر البنية التحتية لتلك المنصات للشفافية بما يسمح بالإطلاع على آليات عملها.
"أخيراً"، يتنفس زوكربيرغ الصعداء معلناً حرباً كوكبية، "سنعمل مع الرئيس ترامب للضغط على الحكومات في أنحاء العالم"، وذلك على خلفية اتهام تلك الحكومات بملاحقة الشركات الأميركية وإجبارها على الرقابة. يستمع زوكربيرغ جيداً ويضبط إيقاعه على النغمة الجديدة في واشنطن. بالفعل شرع ترامب بإطلاق التهديدات في كل اتجاه، فغير الوعيد المتكرر بإجراءات اقتصادية قاسية تجاه الصين والمكسيك والاتحاد الأوروبي، وهي الأقرب إلى معنى الحرب التجارية، ثمة تهديدات بالاستيلاء على كندا وغرينلاند واحتلال قناة بنما. ينضم مالك منصة فايسبوك إلى جوقة ماسك الذي لا يتوقف عن التحرش يومياً بالحكومات حول العالم، من البرازيل وفنزويلا، وصولاً إلى المملكة المتحدة وكندا.
لائحة زوكربيرغ من الحكومات المستهدفة تغطي بقعة واسعة من أطلس العالم، أوروبا التي لديها "عدد متزايد من القوانين التي تؤسس للرقابة وتجعل من الصعب إنتاج أي شيء مبتكر هناك"، وكذلك أميركا اللاتينية التي لديها "محاكم سرية يمكنها أن تأمر الشركات بإزالة الأشياء في صمت"، وبالطبع الصين "التي حظرت تطبيقاتنا من العمل في البلاد" (للسخرية تبدو العبارة الأخيرة وكأنها نسخة محدثة من مبررات حرب الأفيون).
تعيد "ميتا" اكتشاف نفسها كشركة أميركية وتعيد اكتشاف مهمتها الإمبريالية في نشر القيم الأميركية حول العالم. كان ذلك هو الحال دائماً. الجديد هو التماهي مع فجاجة الصوت العالي العائد إلى البيت الأبيض. كل نبوءات الحتمية التقنية التي بشرت بعالم رقمي جديد شجاع، نراها تتحور إلى كابوس. مقولات مثل "الوسيط هو الرسالة" ووعود اللامركزية الرقمية، تنقلب على رأسها، ونرى الحدود الواهية بين السياسي والتقني والرأسمالي وهي تتداعي تماماً، بحيث تتركز الثروة والقوة العسكرية والسلطة السياسية والبنية الرقمية للعالم في أيدى بضعة رجال.