لو كان الراحل يحيى السنوار يعلم أن محور إيران الذي كان يعول على مساندته، هو على هذه الهشاشة في مواجهة العدوانية الإسرائيلية، لكان على الأغلب فكر ملياً فيما أقدم عليه. لكن الرجل، وكما الكثيرين سواه، يبدو أنه أخذ على محمل الجد التصريحات التي كانت تطلقها إيران ومحورها، عن القدرة على محو إسرائيل من الوجود بدقائق معدودة. لكن بعد هجومين جويين على إيران، ومشاغلة حزب الله حوالى السنة، ومن ثم شن هجوم دموي مدمر عليه في لبنان، تبين أن إسرائيل ليست "أوهن من بيت العنكبوت"، بل تُسقط المحور الإيراني حلقة تلو الأخرى. بعد اقتلاع سوريا للنظام الأسدي وانعتاقها من المحور الإيراني، جاء انتخاب رئيس جمهورية في لبنان، الذي كان يعطله المحور الإيراني لأكثر من سنتين، ليعلن انعتاق لبنان أيضاً من هذا المحور.التوقعات لا تقتصر على الحلقة التالية من المحور المرشحة للسقوط -العراق أو اليمن- بل تتوسع للحديث عن سقوط رأس المحور نفسه في طهران. سيما أن ترامب لا يخفي منذ حملته الانتخابية دعمه نتنياهو في عزمه على توجيه ضربة قاصمة لنظام الملالي، بل ومشاركته في هذه الضربة.
بنى البلاشفة امبراطورية واسعة الأطراف، ضمت إلى اتحادهم السوفياتي 15 جمهورية، لتصدير "الثورة" إلى العالم. لكنهم فشلوا في ذلك، وسقطت امبراطوريتهم بعد أقل من سبعين سنة على قيامها، بعد أن عجزوا على إطعام الناس. ودولة الملالي الدينية التي قامت على عقيدة "تصدير الثورة" أيضاً، والتي تعجز الآن عن توفير شروط الحياة الطبيعية للإيرانيين، مضى حوالى خمسين سنة على قيامها. ويكاد يكون من المستحيل في القرن الواحد والعشرين وزمن الذكاء الاصطناعي أن تبلغ دولة توسع دينية عمر إمبراطورية البلاشفة. وكما أن الترهيب والقمع الذي سجله البلاشفة باسم ستالين، لم يسعفهم في الاحتفاظ بإمبراطوريتهم، لن يسعف الملالي أيضاً في إطالة عمر نظامهم الديني.بعض وسائل الإعلام الناطقة بالروسية اعتبرت أن انتخاب جنرال رئيساً للجمهورية في لبنان، هو تحد لإيران. والبعض الآخر رأى أن انتخاب رئيس جمهورية في لبنان أفقد إيران سلطتها على لبنان. فقد نشر موقع Kasparov الروسي المعارض نص مدونتين بمناسبة انتخاب الرئيس اللبناني. رأى صاحب إحدى المدونتين أن البنية التحتية "للتوسع الخميني" التي استغرق بناؤها عقوداً من الزمن، سقطت في أشهر.
قال المدون Victor Frolinsky في مدونته التي نشرها في أكثر من موقع، أن الفراغ الرئاسي في لبنان الذي دام أكثر من سنتين في ظل انهيار شامل، تم ملؤه الآن في ظروف مختلفة مبدئياً توحي بالتفاؤل. في إشارته إلى مارونية الرئيس جوزيف عون، ينسب المدون إلى غالبية الموارنة وأحزابهم، ما عدا المردة، توجههم اليميني الغربي وميلهم لـ"التحالف السياسي- العسكري مع إسرائيل". ويقول أن ترشيح عون للرئاسة كان أول من طرحه "الماروني الجبلي" سمير جعجع "الكتائبي الإسطوري، القائد اليميني المسيحي زمن الحرب الأهلية".
يبدو أن تصور المدون عن خريطة القوى السياسية التي انتخبت عون توقف عند زمن الحرب الأهلية، ويقول إن توافق هذه القوى على انتخاب عون يبدو أكثر من مستهجن. لكن ما يفسر برأيه هذا التوافق، هو وضع الجيش اللبناني بوصفه المؤسسة الرسمية الوحيدة التي احتفظت بهيبتها في المجتمع اللبناني.بين التوجهات الكثيرة الواعدة التي رسمها الرئيس عون لعهده، توقف المدون عند تعهده باحتكار الدولة حق حيازة السلاح. ويرى في هذا تعهد أن "الرئيس الجنرال" يأخذ على عاتقه نزع سلاح حزب الله، و"اقتلاع جذور المأساة اللبنانية".
يقول المدون إن لبنان عرف خلال الخمسين سنة الماضية حرباً أهلية دموية، احتلالاً سورياً، ثورة الأرز، والاستيلاء الإيراني الفعلي على البلاد من خلال جيش الخميني بالوكالة. ويرى أن الرئيس ميشال عون كان يحكم تحت إملاءات حزب الله وإيران. وأصبح لبنان سريعاً بلداً مقيد الإرادة، ولم يتبق إلا استحضار صورة "الشهيد الذي لا يقهر بشير الجميل، رئيس الكتائب إلى الأبد"، الذي كان ليدعو الآن: "أطردوا الجحافل الفارسية!"يرى المدون أن السنة الماضية غيرت الوضع، إذ هزمت إسرائيل حزب الله وقضت على قياداته، ومنحت لبنان فرصة للتعافي. ويقتبس من كلمة وزير الخارجية الإسرائيلي بمناسبة انتخاب جوزيف عون، والتي قال فيها "آمل أن يساهم هذا الاختيار في تعزيز الاستقرار ومستقبل أفضل للبنان وشعبه وعلاقات حسن الجوار".
وبعد أن يشير المدون إلى ترحيب "حلفاء اليمينيين المسيحيين" الولايات المتحدة، فرنسا والسعودية بانتخاب جوزيف عون، يقول إن الإطاحة ببشار الأسد هو هزيمة واضحة لسلطة الملالي الدينية (وكذلك لكرملين بوتين)، وتعني خسارة سوريا بلا رجعة، ويليها ما هو حتمي: نظام الملالي يفقد سلطته على لبنان. والبنية التحتية للتوسع الخميني التي أقيمت على مدى عقود، تنهار في أشهر معدودة.
ويرى Frolinsky أن تلك هي عواقب هجوم حماس، والتي لم تبلغ نهايتها بعد، ولم يقدر لهم في المجموعة أن يتوقعوها.النص الثاني الذي نشره الموقع، تعليقاً على انتخاب عون، لا يحمل إسم كاتبه، ونسب إلى خبراء لم يذكر أحداً منهم، قولهم إن "انتخاب رئيس جديد للبنان يعني نهاية النفوذ الإيراني في البلاد".
موقع الخدمة الروسية في BBC عنون نصه بمناسبة انتخاب عون بالقول "وأخيراً انتخب لبنان رئيساً، وفي تحد لإيران كان جنرالاً". قال الموقع إن كرسي الرئاسة في لبنان بقي خالياً لأكثر من سنتين، ولبلد أنهكته أزمة اقتصادية لعدة سنوات وحرب قريبة مع إسرائيل، يتمتع ملء الفراغ في السلطة بأهمية لم تكن ملحة كما هي اليوم. ويرى أن سليمان فرنجية تخلى عن طموحه الرئاسي، وتنازل لصالح عسكري.توقف الموقع في خطاب عون، وكما سواه، عند تعهده بحصر حمل السلاح بيد الدولة دون سواها. وقال إن الكثيرين رأوا في هذا التعهد تلميحاً لترسانة حزب الله التي لا تمت للدولة بصلة. وينقل عن خبراء لم يذكرهم قولهم إنهم ينظرون إلى انتخاب جوزيف عون بأنه التجربة السياسية الأشد صعوبة للبنان في السنوات الأخيرة. فانتخاب قائد الجيش رئيساً، هو بمثابة إشارة إلى أن نفوذ إيران في لبنان قد تراجع بشكل ملحوظ.. والجيش هو المؤسسة الأشد احتراماً على كافة المستويات في لبنان، وجلوس عسكري على كرسي الرئاسة، يعني أن لبنان عازم على خدمة مصالحه بالدرجة الأولى.
ويرى أن مثل هذا التطور في الأحداث كان تتمة طبيعية لسلسة الإخفاقات التي لحقت بإيران في الشرق الأوسط خلال الفترة الأخيرة. فبعد الصراع المسلح مع إسرائيل، تكبد حزب الله التابع لإيران في لبنان خسائر فادحة في قياداته وقدراته العسكرية. وضعف موقعه في لبنان، وإن كان جناحه السياسي لا يزال جزءاً من المشهد السياسي في البلاد. والضربة الأخرى التي تلقتها إيران تمثلت بالإطاحة بنظام بشار الأسد الموالي لها في سوريا، والذي فقدت إيران بنتيجته موطئ قدم مهماً في الخارج.