قبل ثلاثة أيام نشرت سيدة تدعى ميساء اعتذاراً على صفحتها في فيسبوك، نصُّ المنشور موجَّه إلى السوريين في المناطق المحرَّرة، بموجب التقسيم الذي كان قبل إسقاط الأسد. أعاد عشرات من المتابعين نشر ما كتبته السيدة التي تقيم في مناطق سيطرة الأسد، أيضاً بموجب التقسيم السابق، وفيه تعتذر عن عجزها وأمثالها عن تقديم المساعدة للمنكوبين في الطرف الآخر.
وكالعادة، على وسائل التواصل، كاد الاعتذار أن يتحول إلى تريند، إلا أن محاولات التقليد القليلة افتقرت إلى الأصالة، ولم تكن ذات صلة بما هو مطلوب أو مُنتظَر. إذ ليس من حاجة لأن يقدّم القاصي والداني اعتذارات شخصية، هي أشبه بالاعتذارات التقليدية العمومية التي يلقيها أشخاص يطلبون المسامحة ضمن محيطهم الاجتماعي الضيّق، والأشهر من بينها ما تنقله الدراما التلفزيونية لأشخاص يفعلون ذلك وهم على فراش الاحتضار.نعم، هناك حاجة إلى الاعتذار، بشرط ألا يُبتَذل الأمر برمّته بتحويله إلى فقاعة على السوشيال ميديا، إما أنها لا تصل إلى مستحقّي الاعتذار، أو أنها تصلهم على نحو يميّع القضية ويبدو كأنه يسخر من معاناتهم بتحويل الاعتذار إلى استعراض. الآن، كل يوم قبل الغد، يكون الاعتذار مفيداً لأنه يأتي في مناخ عام لا يخلو من الإيجابية القائمة أساساً على الابتهاج بسقوط الأسد، وهو ما قد ينقضي لاحقاً بفعل الأزمات والاستحقاقات الباهظة.
ما حصل على صعيد السلم الأهلي ربما أعلى من أفضل التوقعات الخاصة بسقوط الأسد، وما كان متوقَّعاً أن يليه من أعمال ثأر وثأر مضاد. وهناك اليوم الملايين من الضحايا وأوليائهم الذين يستحقون الإنصاف، إلا أن طريق العدالة (أو العدالة الانتقالية) في أفضل الأحوال طريق طويل، وقد يستغرق ما لا يقلّ عن عشر سنوات. لذا، الاعتذار المطلوب أولاً هو ذاك الذي يصل إلى أولياء الضحايا، ويقدّمه المسؤولون فعلياً أو معنوياً عن ارتكاب جرائم القتل والتعذيب والتهجير.. إلخ.الاعتذار خطوة معاكسة للميل السوري الجارف إلى تبرئة النفس، وقد رأيناه سابقاً عندما تبرّأ مسؤولون بدرجة وزير مثلاً، أو ضباطٌ كبار، منشقون من دون أن يجدوا أنفسهم مسؤولين معنوياً عن أفعال السلطة التي كانوا من ضمنها. وأخيراً، مع سقوط الأسد، ظهر لدى البعض ذلك الميل إلى اعتبار كل ما حدث جريمة يتحمّل الأسد مسؤوليتها الحصرية، ربما مع قلّة من بطانته. وكأن عشرات آلاف المشاركين في المجازر، وفي التحريض على ارتكابها، هم مجرد ماكينات لا أهلية لها.
حسب الأخبار، هناك ضباط كبار عقدوا تسويات مع الحكم الجديد، ولم يخرج أحد منهم ليعبّر عن ندمه واعتذاره إلى الضحايا. لا يجب بالضرورة أن يكون المعتذر مسؤولاً مباشراً عن أية جريمة؛ إبداء الندم قد يكون مرتبطاً فقط بخدمة المنظومة المجرمة، وهي لفتة تدلّ على احترام معاناة الضحايا وأهاليهم. أيضاً، فيما يخص أولئك الذين أصدروا بيانات، ونصّبوا أنفسهم ممثّلين لجماعة، وطلبوا العفو من موقعهم المزعوم، يُفترض بمن يطلب العفو، وهو إقرار ضمني بارتكاب الجريمة وبالمشاركة فيها، أن يعتذر أولاً انطلاقاً من الموقع المزعوم نفسه.في كل الأحوال، ليس الاعتذار المأمول اعتذار طوائف لطوائف، ولا حتى من نوع الاعتذار الذي قد يقدّمه كثر بعد مثولهم أمام المحاكم. الحديث هو عن مبادرات يمكن القول أنها فرض كفاية لا فرض عين، باستعارة التعبير من الأدبيات الإسلامية، ولها بُعْد معنوي هو الأهم حالياً للسلم الأهلي بالمعنى المباشر. لكن هدفها لا يتوقف عند مطلب السلم الأهلي على أهميته وحساسيته، بل يتعدّاه إلى مساعدة ملايين الضحايا وأهاليهم على عبور هذه المرحلة الانتقالية وقد استردوا شيئاً من كراماتهم المهدورة، وصاروا قادرين على الصفح لا مُكرهين عليه لأي سبب كان.
وأثر الاعتذار يتعدّى الضحايا المباشرين إلى الجميع، لأن إبداء الندم مطلوب في الحالة السورية كمؤشّر على أن الجريمة باتت مرفوضة، ولا يجب أن تتكرر إطلاقاً. ولأن تحمّل المسؤولية، ولو كانت معنوية، يتضمن أن عهد التبرّؤ منها قد انتهى. والتبرؤ كما حدث طوال عقود كان مرادفاً للإفلات من العقاب، ومرادفاً لتجريد السوريين من أهليتهم في السياسة والفضاء العام. قد لا يكون ثمة مبالغة في القول إن الذين يعتذرون، مدفوعين بإحساسهم بالمسؤولية، يستردّون أيضاً كراماتهم وآدميتهم المهدورتين في زمن التحلل من المسؤولية والإفلات من العقاب.قبل سنتين ونصف دُعيت إلى لقاء افتراضي من قبل مجموعة من المعارضين الإيرانيين، البعض منهم في الداخل والبعض في الخارج. أثناء الحوار كانت كلّ امرأة منهم أو كان كل رجل عندما يتكلم يبدأ بالاعتذار مني، لأن مواطنيهم الإيرانيين يرتكبون جرائم في حق أبناء بلدي. لم يقلْ أحد منهم على الإطلاق أنه معارض، وألا علاقة له بالأفعال المشينة لنظام الملالي.
المثال السابق هو على النقيض تماماً من ظاهرة التبرّؤ السورية، فالسوري لا يرى نفسه مسؤولاً عن جرائم ارتكبها الأسد خارج سوريا، أو ضد الذين ليسوا سوريين. وهذا يبدو منطقياً جداً إذ يصدر عن الضحايا، ومنسجماً مع التحلل العام من المسؤولية إذا صدر عن أزلام الأسد. إلا أن الظاهرة ستبدو منطقية أكثر إذا ربطناها بغياب الإحساس بالمواطنة لدى السوريين، فغياب هذه الرابطة يغيِّب الإحساس بالتضامن فيما بينهم، والإحساس بالمسؤولية الجماعية تجاه الغير.ربطاً بذلك، لا مبالغة في القول أن الاعتذار يساهم في تعزيز فكرة الوطن والمواطنة، على أمل أن تتكرس بالدستور والقوانين. وإذا كان للأسد ورجالاته الحصة الأكبر من الجرائم المرتكبة في سوريا طوال عقود، فإن الحرب متعددة الأطراف منذ إثني عشر عاماً حتى نهايته أسقطت احتكاره المطلق، وصار هناك متورّطون في الدم السوري من خارج دائرته، والحديث هو عن انتهاكات خارج ساحات المعارك، أو عن جرائم حرب. يُتوقّع مثلاً على هذا الصعيد أن يسهم تبادل رمزي للاعتذار بين أكراد وعرب في تمهيد الأجواء أمام مصالحة ضرورية بقدر ما هي حتمية، خصوصاً إذا أتت الاعتذارات من متّهمين أو من أصحاب الخطابات العنصرية المواكبة للانتهاكات.
هناك ميزة إيجابية لوسائل التواصل، ربما بين ميزات قليلة من هذا النوع، هي سهولة النشر والوصول بسرعة إلى الجمهور المستهدَف. إنها ميزة تسهّل الوصول لمَن يريد الاعتذار، وتشجّع آخرين على فعل المثل، مع إعادة التأكيد على أنه إجراء مؤقت، وليس بديلاً عن إحقاق منسوب لائق من العدالة. أيضاً، لا بأس في التأكيد ثانية على أن المرجو ليس اعتذاراً أخلاقياً-عاطفياً، يعبّر عن أفراد ذوي نوازع طيبة، لكن لا حيثية اجتماعية أو سياسية لهم. المرجو هو الاعتذار كفاعلية سياسية-أخلاقية، مع إعادة التأكيد على ضرورة عدم ابتذاله بتحويله إلى مجرد تريند على وسائل التواصل.