خلع قائد الجيش العماد جوزاف عون بذّته العسكرية وارتدى البدلة الرسمية وربطة العنق ليدخل قصر بعبدا رئيساً للجمهورية، مظَلَّلاً بغطاء عربي ودولي. وبتفاؤلٍ كبير تجاه المرحلة المقبلة، قرأ عون في مجلس النواب خطابه الأوّل كرئيس، وتضمَّنَ الخطاب بنوداً اقتصادية وإدارية إصلاحية، تطمئن اللبنانيين والعرب إلى أنّ ما ينتظرهم هو لبنان جديد قوامه "حكم القانون وحوكمة تحفظ الحقوق وتضمن المحاسبة".مرحلة جديدةأتى عون إلى الرئاسة وسط استمرار غرق لبنان بأزمته الاقتصادية التي عزَّزَت خراب إداراته العامة. وبما أننا "في أزمة حكم يفترض فيها تغيير الأداء السياسي"، بحسب عون، لم يكن مستَغرَباً أن يترك الرئيس الجديد في خطابه مساحة واسعة للقضايا الإقتصادية والإجتماعية والتربوية والإدارية.
هي "ساعة الحقيقة" وصلنا إليها وتقتضي العمل وفق منظور مختلف عمّا كان سائداً، ولذلك أكّد عون أن عهده سيكون عهداً تغييرياً "في سياساتنا الإقتصادية وتخطيطنا لرعاية شؤوننا الإجتماعية وفي فلسفة المحاسبة والرقابة ومركزية الدولة والإنماء غير المتوازن ومحاربة البطالة ومكافحة الفقر والتصحر البشري والبيئي".وفي معرض التغيير "والمرحلة الجديدة من تاريخ لبنان"، كما وصفها عون، من المفترض أن يتوقَّفَ "التهريب وتبييض الأموال وتجارة المخدّرات"، خصوصاً وأن الحدود ستُضبَط. وفي العهد المرتقب أيضاً "إعادة هيكلة للإدارة العامة، وتعيين الهيئات الناظمة ولا مركزية إدارية موسّعة بما يخفِّف معاناة المواطنين ويعزّز الإنماء المستدام والشامل". والإدارة العامة المقبلة بنظر عون "لا عقدة لديها من القطاع الخاص، وستمنع الاحتكار ولا خوف لديها من فتح دفاترها لصاحب حق أو رقيب، وستعزز المنافسة وتحمي المستهلك وتمنع الهدر وتفعّل أجهزة الرقابة وتحسن التخطيط وإعداد الموازنة وإدارة الدين العام، لأن لا قيمة لإدارة عامة لا تقدّم خدمات نوعية للمواطنين بأفضل الأسعار كشرط أساسي للحفاظ على كرامة اللبناني وإنعاش الاقتصاد وخلق فرص عمل".كما سيعمل جوزاف عون على "تعزيز شبكات الأمان الاجتماعي لا سيما الضمان الاجتماعي والخدمات الصحية"، فضلاً عن "حماية البيئة". ولم تغب المدرسة الرسمية والجامعة اللبنانية عن خطط رئيس الجمهورية الذي أكّد على أنه عهده أن "استثمر في العِلم وفي المدرسة الرسمية والجامعة اللبنانية والحفاظ على التعليم الخاص وحريته". وهذه النقلة النوعية ستشمل "إعادة إعمار ما هدّمه العدوان الإسرائيلي في الجنوب والبقاع والضاحية وجميع أنحاء لبنان". على أنّ هذه الخطوات ستتم تحت مظلّة "المحافظة على الاقتصاد الحرّ والملكية الفردية".التصدير إلى الدول العربيةأدّى ضبط شحنات من المخدّرات المهَرَّبة عبر البضائع المُصَدَّرة من لبنان إلى الدول العربية، إلى التأثير سلباً على حركة التصدير اللبنانية، لا سيّما وأن المملكة العربية السعودية أعلنت في العام 2021 منع دخول الخضراوات والفواكه اللبنانية إلي أسواقها أو المرور بأراضيها، نتيجة "استغلالها في تهريب مواد مخدّرة". واعتبرت وزارة الداخلية السعودية حينها، أن هناك "استهداف للمملكة من مهرّبي المخدرات في لبنان".
ولفتح صفحة جديدة مع المملكة وباقي الدول العربية، أعلن عون أن لبنان لن يصدِّر "سوى أفضل ما لدينا من منتوجات وصناعات"، وفي المقابل "سنستقطب السيّاح والتلامذة والمستثمرين العرب، لنواكب تطوّرهم ونغنيهم بطاقاتنا البشرية ونبني اقتصادات متكاملة ومتعاونة".وضوح الرؤيةما جاء في خطاب الرئيس من شقٍّ اقتصادي، اعتبره الخبير الاقتصادي باتريك مارديني، بأنه "وضوح في التوجّه الاقتصادي نحو الأماكن التي تحتاج للإصلاحات، كما حملَ الخطاب هَمّاً معيشياً مطمئناً للمواطنين".
وانطلاقاً من الوضوح، عوَّلَ مارديني على أن إنجاز النقاط الأساسية التي تحدّث عنها عون "يعيد بناء لبنان". ورأى أن تركيز الخطاب على اللا مركزية "يعني أننا ذاهبون لحلّ الكثير من المشاكل في التلزيمات الاحتكارية التي تقوم بها الدولة في ملفّات الكهرباء والمياه والنفايات والاتصالات وغيرها". وأضاف أنّه عبر اللا مركزية "سيكون هناك منافسة وتكامل بين الدولة والقطاع الخاص، فتعيين الهيئات الناظمة يجعل الدولة تقوم بالتلزيمات على المستوى الوطني، فيما تعطي البلديات التراخيص على المستوى المحلّي، ما يفتح المجال أمام المنافسة وخفض التكاليف على المواطنين". أما الحديث عن العلاقات مع الدول العربية "فيدعم تصدير الإنتاج المحلّي، لأن تحسين العلاقات مع سوريا يعني مرور البضائع عبرها إلى دول الخليج التي طمأنها الرئيس أيضاً لناحية عدم تصدير المخدرات". وبشكل عام، فإن إعادة بناء البلد يعني إخراجه من اللائحة الرمادية ومن الجمود الحاصل على مستوى عدم التعاون مع صندوق النقد الدولي.الاصطدام بالمنظومةفي خطابه، قارَبَ جوزاف عون عهده المقبل عهد الرئيس الراحل فؤاد شهاب لجهة تفعيل إدارات الدولة ومؤسساتها وتحسين الإقتصاد واستقراره كما كان في مرحلة الستينيات، ولا ضَيرَ في الحلم إن كانت نيّة الإصلاح لدى الرئيس موجودة والدعم العربي والدولي تُرجِمَ أفعالاً. لكن استعادة زمن الستينيات لا يقف عند إعلان النوايا وصدقها، ففي لبنان يُذبَح الحلم بسلاح المنظومة الحاكمة المتغلغلة في إدارات الدولة ومؤسساتها. ولذلك، بما أنّ عون أصاب في تشخيصه بأننا في "أزمة حكم وحكّام"، فمن المرَجَّح أنه سيصطدم بالمنظومة الحاكمة التي لن ترضى بسهولة التخلّي عن مكتسباتها التي تعارض كلّ ما تضمَّنه خطاب الرئيس.
المقاربة الشهابية في خطاب عون، صعَّبها ملفّ المصارف وأموال المودعين، وهي معضلة لم يواجهها شهاب. وتكمن الصعوبة في أنّ حلّ أزمة القطاع المصرفي وإعادة الأموال لأصحابها، يستدعي المَسَّ بجزء من أركان المنظومة الحاكمة، وهو أمر استعصى طيلة 5 سنوات. ومع ذلك، أكّد عون على "عدم التهاون في حماية أموال المودعين"، وجَزَمَ بأن في عهده "ستلتزم المصارف تحت سقف الحوكمة والشفافية"، وستكون مصارفَ "لا حاكم عليها سوى القانون ولا أسرار فيها غير السرّ المهني".أمام إصرار عون على الإصلاح، يُعَوَّل على أن تكون الخيارات ضئيلة أمام أركان المنظومة لرفض الإصلاحات، خصوصاً وأنّ التغييرات الجيوسياسية في المنطقة بأسرها تستدعي التغيير الداخلي في لبنان، كما أنّ الإصلاحات الاقتصادية والإدارية باتت مطلباً دولياً، فلا أموال لمساعدة لبنان وإعادة إعماره وخروجه من أزمته إلاّ بعد إجراء الإصلاحات. وعليه، قد يستعيد لبنان بعضاً من جوانب المرحلة الشهابية إذا فُعِّلَت الإدارات العامة والتزمت المنظومة بقدرٍ كافٍ من الإصلاحات.