على الرغم من وجاهة الحدث المتمثّل بانتخاب رئيس للجمهورية، بعد فراغ تجاوز السنتين في سدّة الرئاسة الأولى، فإن البرلمان اللبناني لم يعكس في انعقاده لانتخاب الرئيس إلا صورة الفراغ والملل والصخب الهزيل، وكأننا بهذا البرلمان محل تشبّث بتلك المساحة البرزخية التي تتراوح بين الاستقرار واللااستقرار، بين الثقة واللاثقة وبشكل خاص بين الوطن واللاوطن. إنه برلمان الفجيعة بإمتياز، حتى في جلسة ينتظرها اللبنانيون منذ وشهور وشهور، حيث السعي الدائم إلى تطبيع المجتمع اللبناني من قِبل هذا المجلس مع الأزمات والمشاكل وحبس الأنفاس والوقوع في ضروب الحيرة وانتظار المستحيل.لكنه، مع هذه الجلسة بشكل خاص، أبى هذا البرلمان إلا أن يكون برلمان العصا والجزرة إلى حدّ الغثيان ومن كل حدب وصوب. فالكل يعلم أن جلسة انتخاب الرئيس ما كنت لتنجح لولا عصا الضغط الدولي وصولاً إلى العقوبات من جهة، وجزرة الضمانات للثنائي الشيعي من جهة ثانية بشكل خاص. فهذا المجلس، بكل ما يحوي من خرق وهلاهيل، والذي نأمل أن يكون قد عفا عليه الزمن، هذا المجلس لا يني يؤكّد أنه ينطوي على ما لا حدّ له من الهزال وعدم المسؤولية والصخب والثرثرة والإرتباك، وهي الصورة الشاسعة التي لا يستطيع إلا أن يمظهرها، حتى في جلسة انتخاب الرئيس.لست أدري إذا ما كان هذا المجلس يعكس في العمق حقيقة الشعب اللبناني، لكنه في الظاهر، الواقعة التي تقدم صورة اللبنانيين للعالم أجمع، وفي البال عطفاً على الجلسة الأخيرة، نائب التيار الوطني الحر سليم عون وعراكه الأجوف مع النائبة بولا يعقوبيان. فضلاً عن كونها انعكاساً لاختيار الناس، تشكّل البرلمانات في متونها الأعم، المادة الخام لهيكلة المجتمعات. فأي مجتمع قد يهيكله هذا النمط من البرلمانات كحال الجلسة الأخيرة؟ ربما الصورة الأبرز التي تقدمها هذه الشاكلة من البرلمانات هي أن الحياة بجملتها تقوم فقط على انتهاز الفرص وصولاً إلى التشبيح.على الرغم من الجهد الدولي بغية انعقاد جلسة انتخاب رئيس للجمهورية، هي في الواقع جلسة انتهاز فرصة لانتخاب الرئيس وليست جلسة – كما يجب أن يكون عليه الأمر – تستمد وهجها بشكل تلقائي من الدستور (وبلا منّة من أحد). فنحن هنا إزاء برلمان انتهاز الفرص وليس العمل بالدستور... انتهاز فرصة للتشريع، انتهاز فرصة لتعديل هذه المادة أو تلك، وصولاً إلى انتهاز فرصة لإنتخاب رئيس للبلاد.يثبت المجلس النيابي هذا أن ماضينا في هذا البلد وبال، لكنه يثبت أكثر وأكثر أن حاضرنا أيضاً وبال، أما عن المستقبل... فلستُ أدري. لكن الخوف من المستقبل قد يكون أخف وطأة من الندم والإهانة والملل وما شاكل، مما تحترفه هذه الأنماط من البرلمانات في الحياة اليومية للناس.إن التشريع كآلية ضبط (بالمعنى الإيجابي لكلمة ضبط) تحوّل مع هذا البرلمان إلى نمط من "الروبصات"، ولم أجد كلمة أخرى لوصف عمل هذا البرلمان منذ بداياته حتى جلسة انتخاب الرئيس. فيا لهذه العلاقة اللامنضبطة والتي تقوم بين بعض الكتل النيابية، وبين ما هو مدوّن في "الكتاب" إذا أردنا أن نستعير الكلمة الشهيرة للرئيس الراحل فؤاد شهاب.ثمة إجماع بين أهل الله وشياطينه أن أحداً لا يدخل النار من طريق الصدفة، فالنار مآل قد ينتهي المرء إليه عطفاً على خياراته الخاصة، ومن النافل أن الناس تتحمّل مسؤولية نار برلماناتها، جهنم هذه البرلمانات. إن الإفتراء على الواقع اليومي للناس، عبر هيئات تشريعية تجيد توليد الحذر والإرتياب بين أبناء البلد الواحد، وتجيد أكثر ذرّ الخلاف عند كل منعطف ودرب، يحوّل هذه الهيئات من تشريعية إلى هيئات حروب كامنة خلف القسمات والوجوه والخطابات، وهو ما نأمل أن يكون اللبنانيين بمنأى عنه في الإستحقاقات الانتخابية في التالي من أيامهم في هذا البلد الحزين، بلد أبد النزاعات والحروب... بلد برلمانات الخراب والملل، الذي في مجمل جلساته، كان أشبه بطبل مثقوب يتدحرج فوق الصفيح المتقد للبنان، وما جاوَره من صفيح متّقد ونار.يقول الروائي الألماني غونتر غراس في رواية "الطبل الصفيح": "إن الملل هو الشر القائم بذاته". وجلّ ما نأمله مع انتخاب رئيس جديد للبلاد هو أن نكفّ عن معايشة مجالس نيابية من الشاكلة هذه، حيث مللنا من وجوه الجزء الأكبر من ناسه يعكس حذرنا من شرّ هؤلاء الناس.