لم يخرج لبنان، أو يخالف القاعدة القائلة، إن صاحب النفوذ الإقليمي المتقدم أو الطرف صاحب اليد العليا في الإقليم، هو من يرجح كفة وصول وعبور المسؤول الأول في لبنان، وهو الذي يلعب دوراً أساسياً في ترجيح اختيار رئيس الجمهورية والتحكم بالية تكوين السلطة.
بقي لبنان ولا يزال، أسير هذه المعادلة التي تقول، إن الخارج هو الذي يقرر ما في الداخل. فيما المواطنون اللبنانيون هم عبارة عن رعايا تحت السيطرة والتحكم وهم ليسوا، اكثر من مجلس فرجة يراقب ويتابع ومن ثم يقبل وينفذ. وقد تكون هذه الجدلية التي حكمت لبنان منذ ما قبل تكونه الحديث كجمهورية، هي التي جعلت ما يسمى بروح المواطنة، مسألة ضعيفة ومتهالكة وعنصراً هامشياً على الدوام، وعلى مر الأزمان. وهي على الأرجح السبب في أن لبنان لم ينجح في تكوين ارادة وطنية متماسكة، يكون لها القرار في المفاصل الرئيسية والقرارات الأساسية في هذه البقعة من الجغرافية السياسية."زغر العقل"اتيحت فرص كثيرة، للنخب السياسية اللبنانية، لإثبات معادلة معاكسة لهذه المعادلة. لكن الفشل و"زغر العقل" وحرفية "النقار والنقير" والنكايات المتبادلة، هي التي كانت دائماً مسيطرة ومسببة للفشل المتراكم. والدليل ما حدث خلال التجربة الماضية من عهد ميشال عون الميمون وصحبه الفاشلون المصابون بداء التعنت والعصبية الفارغة. والدليل ما برهنته جلسة انتخاب رئيس الجمهورية، أمام عدسات الكاميرا وعيون سفراء الدول الغربية والعربية. ما أدى خلال العهد الماضي إلى كارثة مالية واقتصادية وسياسية وإدارية استدعت تدخلاً دولياً واقليمياً لإعادة الأولاد إلى بيت الطاعة خوفاً من تشظي لبنان وتناثره وتبخره.
إن خوف المجموعة الدولية والإقليمية من تفاقم وانفجار الأزمة اللبنانية وتشظيها، استدعى هذا الأسلوب الفج والمباشر في التعامل مع النواب والأطراف السياسية. وجرهم من رقابهم وعن طريق التهويل والضغط، بأكثر من أسلوب ووسيلة. ما أسفر عن انتخاب رئيس يشكل ضمانة إستقرار وهدوء في هذه المرحلة.
لقد أجبر الترف اللبناني الفارغ، أولياء الأمور في المنطقة، والعالم. على التصرف بالطريقة التي تمت بها الأمور الآن، من ضغط فائق التصور لتحقيق العملية الانتخابية البسيطة، التي تمهد لإعادة تكوين السلطة المطلوبة بالحد الأدنى في لبنان، لكي لا يشكل مصدر ازعاج وقلق لغيره في المنطقة وعلى هذه البقعة الحساسة والمهمة من شاطيء المتوسط.
في العام 1860، تم يومها انتاج صيغة متصرفية جبل لبنان برئاسة حاكم مسيحي من رعايا السلطنة، على راأس مجلس إدارة موزع على الطوائف والمذاهب التي تعيش في الجبل مع تحديد النسب الوظائفية والتوزع الطائفي من دون استشارة السكان المتذابحين والمتخاصمين آنذاك.
ولدت يومها صيغة حكم واستقرار دامت نحو 50 سنة من السكينة والهدوء والثبات، حيث بات يصح القول: "نيال من له مرقد عنزة في جبل لبنان".
بعد هذه التجربة التي دامت حتى الحرب العالمية الأولى، وخسارة وزوال الخلافة والسلطنة العثمانية، قرر المستعمرون والحكام الجدد في ذلك الزمان، أن لبنان دولة مستقلة تسمى لبنان الكبير.
بين 1920 و1943 قرر الانتداب الفرنسي من يحكم ومن يكون الرئيس وشكل الدستور ومنبعه والقانون والنظام المسيطر والمعمول به.
ومنذ الإستقلال ولبنان مع كل استحقاق رئاسي ينتظر من يقرر له مصيره وشكل حاكمه ومقاس بنطاله وقميصه والرئيس الذي يتقدم الصفوف و"تبكيل الأزرار" أمامه.
وقد فشل اللبنانيون، فشلاً ذريعاً ومتمادياً، في تكوين دولة وطنية متماسكة ونظاماً راسخاً وقوياً.
بقي لبنان أسير التنازع والتناتش، بين المشاريع الإقليمية والدولية، المتنافسة والطامحة للسيطرة في المنطقة أو العالم.
قد لا يفيد السرد التاريخي كثيراً، لكن حالة لبنان الراهنة، في هذه اللحظة التاريخية، إلى ما قبل انتخاب حوزف عون، لم يثبت أنها خرجت عن حالته أو حالاته السابقة المشار إليها.
هكذا بسحر ساحر وكما كان قرر، وتحكم نظام الأسد البائد، في تعيين واختيار رئيس لبنان، منهم الياس الهراوي واميل لحود وميشال سليمان وآخرهم ميشال عون، بعد اتفاق الطائف. فإن موازين القوى والتي نتجت عن المواجهة الأخيرة ما بعد طوفان الأقصى، وما تبعه ونتج عنه في لبنان والمنطقة، لعبت دوراً حاسماً في تقرير مصير رئاسة لبنان وصيغة وموازين حكمه المقبلة.مايسترو واحدليست مصادفة بسيطة، أو هامشية أن يتقاطع كلام وموقف زعيم المختارة والدروز وليد جنبلاط، مع كلام زعيم ووالي دمشق الجديد اأحمد الشرع على إسم قائد الجيش اللبناني العماد جوزاف عون، وأن يُرجح هذا التقاطع بصورة واضحة مندوب لجنة الوصاية الخماسية الأمير زيد بن فرحان بترجيح كفة قائد الجيش للفوز بالرئاسة اللبنانية.
هناك مايسترو، واحد ومن فوق، يقود فرقة العزف على المسرح الإقليمي القريب والمحيط وبالطبع اللبناني راهناً، في هذا التوقيت الإقليمي والدولي الحساس والمعبر. وهو المايسترو نفسه الذي وزع نسخاً من لحن المعزوفة وتقسيماتها المقررة، لأحمد الشرع وجنبلاط وبن فرحان من أجل أن تصدح موسيقى جوزاف عون بالتوازي مع تطبيق الـ1701 ، وسيطرة وتمدد سلاح الشرعية اللبنانية، وفق منطق قرار واتفاق وقف النار الموقع بين إسرائيل ولبنان، والذي يبدو أن تنفيذه سيكون صارماً من دون تردد على جميع الأطراف على قاعدة احتكار الدولة اللبنانية لحمل السلاح.
يوم السبت في الرابع من الشهر الجاري، كانت اللهجة في عين التينة الصادرة عن رئيس كتلة حزب الله النيابية الحاج محمد رعد مرتفعة وقوية، ليتبعها كلام أمين عام حزب الله الشيخ نعيم قاسم بخطاب وكلمة بنفس الارتفاع. لكن الكلام والموقف الحقيقي سرعان ما جاء في اليوم الثاني على لسان مسؤول حزب الله الأمني وفيق صفا، الذي نطق بالكلام المعبر والمباح، وكشف كلمة السر، حين قال: ليس لدينا فيتو على جوزاف عون بل على سمير جعجع!
هذا الكلام، فهم من قبل كل الأطراف، أن "الثنائي الوطني" قد أعطى هذه المرة إشارة الإنطلاق في التفاوض وكلمة السر على رئاسة جوزاف عون، وشروطها وضماناتها ما أتاح إنتاج الصفقة الرئاسية، كما يبدو بعد مفاوضات وضمانات عربية دولية تتعلق بحاجات كثيرة مستقبلية.
وقد حدد وليد جنبلاط في اليوم الثاني عبر شاشة (ال بي سي)، الإطار العام للصفقة الممكنة والمعروضة، بإعتبارها فرصة لإنتخاب عون وإتاحة المجال لعملية إعادة اعمار في الجنوب والضاحية تحت رعاية عربية ودولية من اللجنة الخماسية الوصية الجديدة على لبنان. وهذا ما يبدو أنه حدث وماهو مقبل لكي تكتمل باقي شروط الاستقرار.
واذا كانت الفترة الماضية قد عُرفت بمرحلة الديمقراطية التوافقية كطريق وأسلوب اعتمده الثنائي للتعطيل والمساومة، فهل سينتقل لبنان مع وصول جوزاف عون بعناوينه الواعدة والمتقدمة إلى الديمقراطية البرلمانية راهناً ومستقبلاً، كطريق للنمو والإستقرار وإعادة البناء؟