بعد سقوط نظام صدام حسين في العراق، "نبش" الباحثون قصائد الشعراء التي تُليت ونُشرت في مديحه، ومجّدت حكمه وطغيانه وقادسيته، وكانت القصائد موضع جدل وذمّ في المنابر الثقافية. في أيامها كتب الروائي العراقي سلام عبود: "لا يمكن الأديب في أي حال من الأحوال أن يقول كلمة في وطن يحكمه صدام أو هتلر، إلا بطريقتين، أولاهما أن يتحامق ويكتب علناً، فيكتب في الوقت ذاته وصية موته. وثانيتهما أن يصمت، وبذلك يكتب وصية موته الأدبي. تلك المعادلة الصعبة واجهها كتّاب العراق ممن ولدوا أدبياً في الزمن الصدامي وسنوات حكم البعث".
واليوم مع سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، يعاد التذكير بقصائد قالها شعراء من لبنان وبلدان أخرى، في مديح حافظ الأسد وابنه باسل الذي توفي في حادث سير العام 1994، ولم تكن القصائد إلا محاولات آثمة لتبييض صفحة الطغيان، وربّما نوعاً من تشبيح مقنع ومسايرة مقيتة من الشعراء للسلطان. الشاعر السوري المقيم في لندن، نوري الجراح كتب في فايسبوكه مذكراً بما قاله الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري في مديح حافظ الأسد:
"سلاماً أيها الأسدُ/ سلمت وتسلمُ البلدُ
وتسلمُ أمَّةٌ فَخَرت/ بأنك خيرُ من تلدُ.هذان البيتان يحفظهما كل سوري بسبب التكرار اليومي لهما في التلفزيون السوري وموسيقياً في مقدمة نشرة الأخبار طوال سنوات، واعتبر الجراح أن هذين البيتين "إكليل من العار على رأس الشاعر الجواهري". في الواقع كان الجواهري المحسوب على "اليسار"، شاعر الملوك والرؤساء، يوزع المديح طولاً وعرضاً. مدح الملك حسين في قصيدة شهيرة "يا سيدي أسعف فمي". ومدح الملك فيصل الأول ملك العراق، وعمل في بلاطه ثلاث سنوات (1927 - 1930)، ومدح عبد الكريم قاسم وكان قريباً منه، ومدح القائد البريطاني مونتغمري في قصيدة "تونس".
أيضاً ذكّر نوري الجراح بعبارات قالها الشاعر اللبناني طلال حيدر في مديح باسل الأسد: سامع صهيل الفرس وينو عريس الزين
خيال برج الأسد أسمر كحيل العين.وإذا عدنا إلى مسار طلال حيدر ونتاجه القليل، نجد أنه في جانب منه كان شاعر الترف والمديح، هذا دفع بالشاعر اللبناني عبده وازن في فايسبوكه إلى مطالبة حيدر بالاعتذار من السوريين، وكتب: "طلال حيدر شاعر مهم وكتب قصائد جميلة، لكن نتاجه ضئيل جداً، فهو قضى حياته يشرب ويحشش كما يعترف علناً، ومرة كنا في فرنسا مع أدونيس فتحدث طلال الى صحافية لبنانية من لوريان لوجور قائلاً لها: هذا الرجل الذي يحكيك في دمه طن ويسكي وطن حشيشة..."، ويذكر وازن جملة من الاتهامات الأدبية والسياسية بحق حيدر منها: "تزلمه وتزلفه لنظام حافظ وبشار(..) وغازي كنعان". أضاف وازن: "عندما انقلب الأسد والعبث انقلب طلال وصار حريرياً جداً وتنعم بالحريرية. ومرة ألقى قصيدة في ذكرى الحريري هي قصيدة قديمة ومنشورة وقد بدّل فيها قليلاً". هذا عدا الاتهامات الأخرى التي يوردها وازن النصب والفضائح المالية.وبغض النظر عن صحة الاتهامات من عدمها، فهذا ليس موضوعنا، لكن الواقع أن علاقة الشعراء والكتاب بالسلاطين والطغاة والمال وربما النساء، مشكلة عويصة وعميقة وتطاول الكثيرين. في الغرب تبدو الأمور واضحة، مجرّدة، كل السير الأدبية موضع تشريح ونقد، من رامبو وتجارة الأسلحة، إلى ستالينية بابلوا نيرودا، وفاشية عزرا باوند. لكن في ديارنا نخاف حتى من رسائل غادة السمان، ونعتمد ثقافة "التكويع" وطي الصفحة، ضمن منطق "مات الملك عاش الملك"، وثقافة التكسّب لها أشكال وألوان وأساليب وفتاوى وأبواب، أحياناً تمارس بوقاحة، ومرات تتسم بالمواربة والنتيجة واحدة.لم يكن طلال حيدر وحده من كتب قصيدة في مناسبة أسدية. مَن يعود إلى أرشيف الصحف اللبنانية سيجد العجائب في علاقة اللبنانيين بالنظام السوري، سواء السياسيين أو الأمنيين أو رجال الدين وحتى الشعراء والسياديين والعلمانيين وأبناء الجبل وأبناء السهل، كانوا يتبارون على حضور المناسبات الأسدية، أو يُجبرون على حضورها. حبذا لو نبش أحدهم القصائد التي كانت تلقى في تلك المرحلة. ربما أشهر من مدح الأسديين، الشاعر اللبناني الراحل جوزف حرب صاحب الأغنيات الشهيرة لفيروز وزياد الرحباني. نجهل كيف بدأت العلاقة بين حرب وآل الأسد، وكيف صار الشاعر "المتمرد" والثوري صديقاً للاستبداد الأسدي، يهاجم كل الأنظمة العربية وحين يصل إلى النظام السوري يكيل له المديح. ما نعرفه، وسجلته الصحف، أن حرب ذهب في الذكرى الأربعين لحافظ الأسد إلى بلدة القرداحة السورية وقدم قصيدة في رثاء ابنها بعنوان "النشيد الدمشقي"، وفيها يقول:
أبطال أمتك الماضون ما انطفؤوا
أهدوك إكليل شمس عندما أفلوا
ذا خالد ذا صلاح الدين ذا يزن
وذا هشام وتيك الأعصر الأول
وذي أمية أولما بذي حلب
دانت لدولة سيف الدولة الدول
كأنما أعنق الأعداء منبرهم
وخطبة الدم فيها السيف يرتجل
وأنت منهم مضوا ما نكسوا علما
يوما وعن صهوات الخيل ما نزلواوغداة تشييع باسل الأسد أيضاً، وقف أحد الشعراء اللبنانيين على المنصة يلقي قصيدة في مديح باسل الأسد فقال: "أسد والناس من تحتك عدد". انتبه كثر الى هذه العبارة الفجة والوقحة وباتت مثالاً صارخاً على إدانة الشاعر اللبناني الذي أنكرها لاحقاً. نُسيت القصيدة وبقيت منها هذه العبارة شديدة الوقاحة، راسخة في الأذهان لشدة وطأتها. وإذا قلنا إن الجواهري كان يرضي الأسد بسبب لجوئه إلى دمشق هرباً من نظام صدام، وإذا قلنا أن بعض الشعراء اللبنانيين كانون يفرطون في التملّق للنظام الأسدي للأسباب المعروفة، لكن ما الذي يجعل الشاعر الفلسطيني سميح القاسم يمدح حافظ الأسد أو يرثيه:
(...)
أسدَ العروبةِ هل تغادر ساحها وعلى التخومِ فرنجةٌ ومغولُ
وبنو أميّةَ يولمونَ خيولهم وضيوفهم قبلَ الأفولِ أفولُ؟