لطالما ارتبطت أنشطة تربية المواشي والدواجن بالدورة الاقتصاديّة الريفيّة اللبنانيّة، بما في ذلك مصدر رزق شريحة واسعة من الأسر الأكثر فقرًا، التي تعتمد على هذه الأنشطة كمصدر إضافي أو حتّى أساسي للدخل. وعلى النحو نفسه، ساهمت المزارع الكبرى -التي تعمل في هذا المجال- في توفير فرص العمل لأبناء هذه الشريحة، وهو ما أسهم في الحفاظ على جزء من النسيج الاجتماعي الريفي في لبنان. لهذا السبب، لا يمكن مقاربة المشاكل التي يعاني منها هذا القطاع اليوم إلا بوصفها نكسة اقتصاديّة واجتماعيّة كبرى، وخصوصًا عند الأخذ بالاعتبار علاقة هذا القطاع بالقطاعات الإنتاجيّة الأخرى ضمن سلاسل التوريد.حساسيّة القطاع قبل الحربمن المهم الإشارة أولًا إلى أنّ أنشطة القطاع، وأهميّته ضمن الدورة الاقتصاديّة في لبنان، لم تقتصر يومًا على المؤسّسات أو الشركات التي تملك رساميل واستثمارات وازنة. إذ لطالما مثّلت أنشطة تربية الدواجن والمواشي مصدرًا رديفًا للدخل بالنسبة إلى الأسر الأكثر فقرًا، أو الشرائح الاجتماعيّة الأكثر هشاشة، في الريف اللبناني. وبهذا المعنى، مثّلت أنشطة القطاع إحدى الدعامات الأخيرة المتبقية للدورة الاقتصاديّة في الأرياف اللبنانيّة، والتي كانت تمنع توسّع ظاهرة النزوح إلى المدن، كما كانت تحد من توسّع رقعة الفقر المدقع والبطالة في القرى.
على سبيل المثال، تشير أرقام البنك الدولي إلى أنّ ما يقارب الـ 60% من الأسر الأكثر فقرًا في منطقة الجنوب كانت تعتمد على تربية الدواجن كمصدر أساسي أو رديف للدخل. وفي واقع الأمر، كان هذا النوع من الأنشطة يسهم في تأمين الحد الأدنى من المستلزمات الغذائيّة للأسر نفسها، قبل أن يكون مصدرًا للدخل المالي. ولطالما ركّزت جمعيّات المجتمع المدني والمنظّمات الدوليّة على تدعيم هذه الأنشطة الريفيّة، ومدّ المزارعين بالأساليب اللازمة لتحديث نشاطهم، كوسيلة لمحاربة الفقر أو الحد من ظاهرة النزوح وهجرة الريف. وفي الكثير من الحالات، تمكّنت أسر فقيرة من الانتقال إلى الطبقة الوسطى، بفعل التطوّر التدريجي في حجم المزارع التي تمتلكها.
إلا أنّ القطاع اتّسم بحساسيّة خاصّة من جهة أخرى، وهي اتصاله بعدّة أنشطة اقتصاديّة في إطار سلاسل التوريد المحليّة. فتربية المواشي والدواجن تمثّل حلقة مورّدة بالغة الأهميّة بالنسبة لنشاط المصنوعات الغذائيّة، ومنها الألبان والألبان مثلًا. ومن دون الإنتاج المحلّي، سيكون متعذّرًا توفّر صناعات غذائيّة محليّة ذات قدرة تنافسيّة عالية، بالنظر إلى ارتفاع كلفة استبدال الإنتاج المحلّي بالإنتاج المستورد. كما يمثّل القطاع نفسه حلقة الاستهلاك الأساسيّة لأنشطة إنتاج الأعلاف، التي يجري بيعها لمزارع الدواجن والمواشي. وبهذا الشكل، يمكن القول أن تدهور وضعيّة قطاع تربية المواشي والدواجن تعني عمليًّا الإضرار بحلقات إنتاجيّة متكاملة ومتماسكة، على امتداد سلاسل التوريد.
الأهم هنا، هو دور القطاع في سياق منظومة الأمن الغذائي المحلّي، وخصوصًا بعدما ارتفع اعتماد السوق المحليّة على الإنتاج المستورد إلى حدود الـ 80%. ومن المهم التنويه هنا إلى أنّ الاعتماد على السلع الغذائيّة المستوردة يعرّض السوق المحليّة إلى مخاطر اضطرابات خطوط الشحن الدوليّة، تمامًا كما جرى عند بدء اضطرابات البحر الأحمر منذ أواخر العام 2023. كما يحمل هذا الأمر مخاطر التضخّم الناتج عن ارتفاع أسعار الغذاء العالميّة، أو تدهور سعر صرف العملة المحليّة. ويمكن التذكير هنا ببلوغ نسبة ارتفاع المواد الغذائيّة حدود الـ 23.19% على أساس سنوي، في أواخر تشرين الثاني الماضي، رغم استقرار سعر الصرف، لأسباب تتصل بارتفاع أسعار السلع الغذائيّة المستوردة.
في واقع الأمر، لا يمكن الحديث عن أضرار الحرب على القطاع الاقتصاديّة في الجنوب والبقاع من دون التطرّق إلى التداعيات التي طالت قطاع تربية المواشي والدواجن. فنحو ربع مخزون البلاد من رؤوس الماعز، تركّزت تاريخيًا في هاتين المنطقتين، فضلًا عن نحو نصف مراكز شراء وتوزيع المنتوجات الغذائيّة، التي تعتمد في إنتاجها على الثروة الحيوانيّة. بهذا المعنى، من الصعب تجاهل الرابط الواضح بين وضعيّة القطاع على المستوى الوطني، وأوضاع المزارعين في المناطق الأكثر تضرّرًا من الحرب الأخيرة. مع الإشارة إلى أنّ هذه الأنشطة تتسم بوضعيّة خاصّة في بعض القرى الحدوديّة، كحال كفرشوبا، التي تضم وحدها أكثر من 5 آلاف رأس من الغنم والماعز.
وعند الحديث عن القطاع، من الضروري التنويه إلى حجم التحديات التي واجهت مربي المواشي والدواجن على مدى السنوات الماضية، والتي هددت استمراريّة عملهم في بعض المناطق، حتّى قبل اندلاع الحرب. ومن هذه التحديات على سبيل المثال المنافسة غير المشروعة من قبل المهرّبين، وعدم وجود خطط اقتصاديّة رسميّة لحماية المنتجين المحليين من المنتجات المستوردة. كما عانى المنتجون المحليون من تداعيات تدهور أوضاع البنية التحتيّة، وخصوصًا في مجال الكهرباء، وهو ما حمّلهم أكلاف إضافيّة للتعويض عن عدم توفّر الخدمات العامّة. أمّا تدهور سعر صرف الليرة منذ العام 2019، فحمّل المنتجون كلفة الزيادة في أسعار المواد الأوليّة المستوردة، في مقابل محدوديّة القدرة على رفع أسعار إنتاجهم محليًا. وكذلك أدّى انخفاض الاستهلاك المحلّي إلى تحميل منتجي اللحوم خسائر كبيرة، بفعل انخفاض الطلب.الخسائر المباشرةيتضمّن تقرير منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة حول آثار الحرب الأخيرة بعض الإحصاءات، التي توضح الخسائر التي لحقت بقطاع مربي الدواجن في منطقة الجنوب، لغاية شهر أيلول الماضي. فحتّى تلك اللحظة، أفاد 65% من الأسر المقيمة في منطقة بنت جبيل بتحمّلهم خسائر ناتجة مرتبطة بأنشطة تربية الدواجن، بالإضافة إلى 63% من الأسر المقيمة في صور، و60% من الأسر المقيمة في مرجعيون، 50% من الأسر المقيمة في حاصبيّا. وعلى نحوٍ أدق، أفادت إحصاءات بأنّ هذه الأسر خسرت ما يقارب الـ 71% من خلايا النحل، و51% من الدواجن المنزليّة، و32% من الإغنام، بالإضافة إلى 27% من رؤوس الأبقار و16% من رؤوس الماعز.
بعد توسّع الحرب، قدّم البنك الدولي خلال شهر تشرين الثاني الماضي تقديرات أوضح للقيمة الإجماليّة للخسائر التي لحقت بالقطاع. إذ بلغت قيمة الأضرار الماديّة وحدها في هذا القطاع نحو 99 مليون دولار أميركي، بينما اتّسعت قيمة الأضرار الاقتصاديّة –التي تشمل كلفة توقّف الإنتاج مثلًا- إلى نحو 533 مليون دولار أميركي. ووفقًا لهذه الإحصاءات، تركّز الجانب الأكبر من الأضرار في أنشطة تربية الدواجن، التي عانت من خسائر اقتصاديّة ناهزت حدود الـ 297 مليون دولار أميركي. وبحسب البنك الدولي، تفاقم حجم الأضرار مع توسّع ظاهرة النزوح من المناطق التي تعرّضت للأعمال الحربيّة، وهو ما أدّى إلى خلل في إمدادات الأعلاف وهجران القطعان. ورأى البنك في تقريره حول أضرار الحرب أنّ نفوق الثروة الحيوانيّة بهذا الشكل سيعيق جهود نهضة القطاع وتعافيه في المستقبل.
تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي حول آثار الحرب ركّز على جانب آخر من الأضرار التي لحقت بالثروة الحيوانيّة، وتحديدًا تلك التي طالت أنشطة إنتاج الألبان. فبحسب التقرير، يرتبط إنتاج الألبان يرتبط ارتباطًا وثيقًا بقطاع الثروة الحيوانية، حيث يشارك مزارعو الثروة الحيوانية إما في إنتاج منتجات الألبان بأنفسهم أو في تزويد المواد الخام لمصانع الألبان المحلية. وفي منطقة جنوب الليطاني، بحسب التقرير، اعتمد مربو المواشي -قبل الحرب- على أربعة معامل لإنتاج الألبان، تقع جميعها في منطقتي الخيام وعيترون. ومن المعلوم أن دورة الإنتاج توقّفت كليًا في هاتين المنطقتين بعد الحرب، نظرًا لطبيعة الدمار الشامل التي تعرّضت له المنشآت الاقتصاديّة فيها.
في نتيجة كل هذه الأحداث، تشير أرقام وزارة الاقتصاد والتجارة إلى أنّ الحجم الإجمالي لخسائر القطاع بلغ أخيرًا أكثر من ألف رأس من المواشي، و340 ألف طير، ونحو 370 خليّة نحل. كما أدّت الحرب إلى تدمير أنشطة تربية المواشي والدواجن بشكل شبه كلّي على امتداد شريط كامل من القرى الحدوديّة، التي تعذّر الوصول إليها منذ شهر أيلول الماضي، كما تعذّر إنقاذ مخزون الثروة الحيوانيّة فيها. وفي هذه القرى بالتحديد، قد يكون من المستحيل استعادة النشاط في هذا القطاع، بالنسبة للأسر أو المؤسّسات التي لا تملك رساميل كافية لإعادة تكوين ثروتها الحيوانيّة.إجراءات مطلوبةلا يمكن توقّع نهضة هذا القطاع، وخصوصًا في قرى جنوب الليطاني، من دون تدخّل حكومي عاجل وسريع. وهذا التدخّل، يفترض أن يؤمّن أولًا المصادر التمويليّة المطلوبة، لإعادة تكوين الثروة الحيوانيّة التي تملكها الأسر الريفيّة، وخصوصًا تلك التي لا تملك أي موارد ماليّة كافية لإنعاش أعمالها. وهذا التمويل يمكن تأمينه على شكل مساعدات أو برامج شراكة خاصّة، بالتعاون مع المنظمات الدوليّة، أو من خلال القروض المدعومة التي يمكن أن يمنحها مصرف لبنان. مع الإشارة إلى أنّ الأزمة الماليّة أدّت إلى وقف منح هذه القروض منذ العام 2019.
فضلًا عن ذلك، من المهم مقاربة الحاجات الأساسيّة التي يفترض تأمينها لتسهيل أنشطة الإنتاج في هذا القطاع، وفي طليعتها الجانب المتصل بمصادر الطاقة، التي يفترض تأمينها بكلفة معقولة. وهذا ما يمكن معالجته بالبرامج اللامركزيّة، التي يمكن أن تستهدف إنتاج الكهرباء بالطاقة المتجدّدة في الأرياف. كما ثمّة حاجة خاصّة لتوفير الدعم للأبحاث وبرامج التخطيط، التي يمكن أن تضع أساليب جديدة لتكامل حلقات الإنتاج وسلاسل التوريد، التي تعمل من ضمنها أنشطة تربية المواشي والدواجن.
كل هذه المعالجات، يجب أن تأتي من ضمن رؤية اقتصاديّة أوسع، تضع في صلب أهدافها دعم القطاعات الإنتاجيّة على المستوى الوطني، وتعميق الترابط بينها. فعلى سبيل المثال، من المفترض أن يكون تعزيز الثروة الحيوانيّة مترابطًا مع الخطط التي تستهدف تنمية الصناعات الغذائيّة، وتعزيز تنافسيّتها، وزيادة الاعتماد على الإنتاج الغذائي المحلّي. ومن دون هذا الترابط، في الخطط والبرامج، سيصعب تأمين مقوّمات النهوض لأي من هذه القطاعات.