صدر حديثًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب التسلطية الجديدة في روسيا: بوتين وسياسة ضبط النظام لديفيد لويس، وترجمة عامر شيخوني، وهو مكوَّن من مقدمة وتسعة فصول وخاتمة. يتناول الكتاب السياسة الروسية بعد الحرب الباردة ونهاية الحقبة السوفياتية، ويحتوي على قراءة موسعة لأسباب ما سُميت ظاهرة "البوتينية"، وأسبابها والظروف التي أدت إليها وممارساتها ونتائجها المتوقعة، في قراءة جديدة لواقع سلطة في بلد كان يكافح بعد مراحل من التهميش لإثبات نفسه من جديد. يقع الكتاب في 392 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.
الصراع بين الديمقراطية والتسلطية بعد انتهاء الحرب الباردة ومفاعيلها مجالٌ رحب للدراسة، وتُعتبَر روسيا "اللاسوفياتية" الرقعة الجغرافية الأكثر إثارة للجدل في هذا المضمار، وبخاصة مع نظام حالي أنشأه فلاديمير بوتين، رجل المخابرات العتيق، والسياسي المخضرم الذي عاش في حقبتين، وورث بلدًا كان زعيم جمهوريات سوفياتية انفرط عقدها وهامت كلٌّ في واد نتيجةَ سبعين سنة من التسلطية والقمع والديكتاتورية وأقل القليل من الديمقراطية، لكنه كافح بعناد حتى كرَّس نسخة جديدة من السياسات السلطوية باتت تُعرف بـ "البوتينية"، وأصبح فهمها ضروريًّا لاستيعاب أفضل للسياسة العالمية في ظل صعود أنظمة مستبدّة غير ليبرالية في أوروبا الشرقية وأفريقيا وآسيا قد تكون تأثرت بأنموذجها، وزيادة نشاط الحركات الإسلامية المتشددة في الشرق الأوسط، والحركات الشعبوية، اليسارية في أوروبا الشرقية واليمينية في الغرب، التي تجمعت حول تصورات بديلة من النظامَين المحلي والدولي القائمَين، ورفضت قواعد دولية مثل حقوق الإنسان، ودعت إلى ترسيخ ثقافات قومية أو دينية.روسيا: محاولةُ انتقال ثم انتقالٌ مضاد
يستطيع المتتبّع للسياسة الدولية الاطمئنان إلى نظرية تزعُّم روسيا - وإنْ غير المنظَّم وغير المعلَن - للتوجه المضادّ للّيبرالية في عالم اليوم، وهي وإنْ تبنّت في عام 1991 جميع مؤسسات الديمقراطية الليبرالية، وسمحت بدور عالمي في سياستها الداخلية، كمراقبة الانتخابات والإصلاحات الاقتصادية ... وغيرهما، إلا أنها وجدت نفسها نتيجة لذلك بلدًا محطَّمًا اقتصاديًّا ويعاني انقسامات داخلية جعلته يستسلم أمام التمرد الشيشاني، في نظام عالمي قادته الولايات المتحدة الأميركية وتحولت روسيا في ظله مختبرًا سياسيًّا.يبيِّن المؤلف في التسلطية الجديدة ملابسات دفع روسيا قسرًا لتختار بين الفوضى وضبط النظام، وكيف أثر ذلك في جنوحها من جديد نحو التسلطية، التي لجأ المؤلف لشرحها إلى كتابات المفكر الألماني غير الليبرالي والمرتبط بالنازية والمعادي للسامية كارل شميت (1888-1985).كارل شميت: بداية الرحلة الروسية نحو التسلطية
يناقش المؤلف في كتابه بأسلوب سردي-تحليلي كتابات شميت، التي وُصفت في أوروبا والولايات المتحدة بـ "الأكثر إثارة للقلق" في القرن العشرين، ولا تزال حتى اليوم تُلهم المعارضين غير الليبراليين في الحركات اليمينية العابرة للقوميات في الغرب، والتفكيرَ السياسي المحافظ في روسيا، وعلى رأسه التسلطيةُ "البوتينية" التي رأت في مقارباته السياسية حلًّا للأزمة الوجودية التي واجهتها أواخر التسعينيات.يتناول شميت مبدأ السيادة لا بصفته مصطلحًا قانونيًا، بل باعتبارها اتخاذ قرارات تتعلق بسيادة القانون متحررة من قيود الليبرالية ومن الأعراف والاتفاقات الدولية، وهو مفهوم استخدمه بوتين داخليًّا لحصر اتخاذ القرار بالكرملين، وفرض التسلطية على المناطق والأحزاب السياسية والمجتمع المدني والأقليات، وخارجيًّا لاستعادة المبادرة من الفاعلين الدوليين.المحافظون الروس ونظرة جديدة إلى الديمقراطية
بين حدَّي الديمقراطية والتعددية السياسية خرج تيار المحافظين الروسي بمقاربة جديدة وعجيبة للديمقراطية، اعتبر بوتين نفسه بموجبها رئيسًا وصل إلى السلطة ديمقراطيًّا، وأحاط نفسه بنخبة من هؤلاء المحافظين الراديكاليين. ترى هذه المقاربة في التعددية السياسية تقويضًا للدولة، وأنها يجب أن تُدار بحذر ويسيطَر عليها، ربما لتأثرهم – كما سلف القول – بشميت، الذي فرَّق بين "الليبرالية" و"الديمقراطية"، واقترح "ديمقراطية موجّهة" أو "ديمقراطية سيادية"، وكلتاهما تتنافى مع الليبرالية وتطبَّق في روسيا الحديثة ديمقراطيةٌ على شاكلتهما، تضع الشعبَ في مواجهة المنتقدين، وتصف الأقليات بـ "الطابور الخامس" العميل للأجنبي؛ ما دفع بوتين لاعتقال أفراد من الأقلية الحاكمة بتهم واهية، وقمع تمرد الشيشان بكل قسوة، وفرض ثنائية في عمل القضاء بين الأحكام العادية و"المحاكمات غبّ الطلب" في القضايا السياسية.السياسة الخارجية الروسية: أسباب ونتائج
مع التدخل الغربي في يوغسلافيا والعراق، وثورات أوكرانيا وجورجيا وقيرغيزستان "الملونة"، ثم الربيع العربي، وتفرّد الولايات المتحدة بمعالجة أزمات العالم، ازدادت حدة شعور روسيا بالتهميش، وتكوَّن لدى سياسييها تصورٌ فحواه أن رفع لواء العمل الإنساني والديمقراطية وحقوق الإنسان لدى الغرب ليس – وبمثل هذا قال شميت - سوى غطاء خبيث للسيطرة الأميركية، فتوسعوا في سياستهم الخارجية بعد عام 2005 في كسر القواعد، فضموا شبه جزيرة القرم وتدخلوا عسكريًّا في سورية، حتى حوّلوا السياسة الخارجية صراعًا عنيفًا مع "العولمة الليبرالية".أما فكريًّا، فقد طرح المحافظون الروس أفكارًا مستحدثة في الحيز المكاني لمواجهة "اللامكانية" الغربية المفتوحة، وسموها "العالم الروسي"، "التكامل الأوراسي"، "أوراسيا العظمى"، لتأكيد دور روسيا في فضاء عظيم مثل أوراسيا، وتطبيقًا لتصور شميت النظام العالمي "فضاءاتٍ عظمى".روسيا الأخلاقية: طوباوية تهاوت أمام السلوك
يناقش ديفيد لويس في كتابه تجليَ الفكرِ الأخلاقي الأرثوذكسي القديم للسياسة الروسية في تفكير المحافظين المعاصرين بتصور روسيا حصنًا ضد الفوضى والاضطراب اللذين يصنعهما الغرب، وباتهام الليبرالية بعدم توافقها مع مسيرة التاريخ، في حين تقف روسيا "الأخلاقية" على الجانب الصحيح منه، إلا أن الكاتب يُظهر مناقضة الوقائع على الأرض هذا المنحى، مع تحول النظام السياسي الروسي نحو مزيد من القمع، وبروز الاستياء الشعبي، وعرقلة الاقتصاد بانتشار الفساد وانعدام الكفاءة، والسعي وراء الهيمنة والانغماس في صراع مع الجيران، حتى باتت سياسة اتباع نمط شميت في الحكم تهديدًا بتقويض النظام السياسي المعتمد على "البوتينية".كتاب دافيد لويس هو جمعٌ لأفكار متناثرة في أوراق بحثية، قُدمت الأولى منها في مؤتمر "جمعية الدراسات الدولية" بمدينة بالتيمور في شباط 2017 بعنوان "فهم التغيير في السياسة العالمية"، والثانية مدوَّنات للمؤلف كتبها خلال مشاركته بمناقشة على هامش مؤتمر عُقد بكلية كينغز في جامعة لندن في تشرين الثاني/ نوفمبر 2017 بعنوان "1917 في 2017، ثورة روسيا غير المكتملة؟" (1917 in 2017)، والثالثة ورقة بحثية ألقاها في مؤتمر "جمعية الدراسات الدولية" بسان فرانسيسكو في عام 2018، بعنوان "تفكير المجال الكبير في السياسة الخارجية الروسية" ، أما الرابعة فورقة بحثية ألقاها في مؤتمر "الجمعية الأوروبية للدراسات الدولية" ببراغ في أيلول 2018. وقد أخذت ملاحظات وتعليقات تلقاها لويس على ورقاته طريقها إلى كتابه، كما أغنت مادةَ الكتاب المراجعاتُ التي قام بها فريق محترف من المحررين في دار نشر جامعة إدنبرة التي أصدرت الكتاب؛ ما جعله بحلته النهائية، بعد الجهد الاستثنائي الذي بذله لويس لإظهار أهمية شميت في فهم التسلطية المعاصرة في روسيا، مهمًا لكل طالب علوم سياسية وقارئ متابع للسياسة الدولية.