انتهت "الحركات الثورية" في أميركا اللاتينية وإفريقيا وآسيا، بلا استثناء، إلى عصابات مسلحة تمول نفسها بزراعة وتصنيع المخدرات وتهريبها. وبعضها، في إفريقيا خصوصاً، تحوّل إلى الإتجار بالبشر، بل وبالأعضاء البشرية أيضاً، أو العمل بما يسمى "الماس الدموي"، أي تجارة السلاح مقابل الأحجار الكريمة. وأفضى كل هذا إلى تحوّل تلك الحركات لمجرد عصابات إجرامية.وكان حافظ الأسد قد عمد إثر فشل اقتصاده "الاشتراكي"، والحصار الدولي الذي تعرض له أواسط الثمانينات، إلى السيطرة على زراعة الحشيشة وتشجيع زراعة الأفيون في سهل البقاع اللبناني، ورعاية التهريب بالشراكة مع الميليشيات اللبنانية، والاستحواذ على الحصة الكبرى من الأرباح التي قدرت حينها بنحو 4 مليارات دولار سنوياً، شكلت الدخل الأساسي من العملة الصعبة للنظام. ولم تنته زراعة الأفيون كما الحد من زراعة الحشيشة إلا بعد تطبيع العلاقات بين النظام السوري والولايات المتحدة (ودول الخليج ضمناً)، إبان الانخراط في التحالف الدولي لتحرير الكويت، وكذلك بعد توقيع اتفاق الطائف وانتهاء الحروب اللبنانية.وعلى هذا المنوال، وبعدما تحوّل النظام السوري قبل عقدين إلى عصابة إجرامية تحكم دولة محاصرة بالعقوبات، وبما أن الإبن سر أبيه، لجأ بشار الأسد وأخوه ماهر، بالشراكة الكاملة مع حزب الله والميليشيات الإيرانية في سوريا، إلى صناعة المخدرات وترويجها، والانخراط في كل الأعمال المافياوية من تبييض الأموال وطباعة العملات المزورة، إلى تهريب البضائع، عدا "التعفيش" والاستيلاء على الأملاك والعقارات، وفرض الأتاوات ونهب المساعدات الإغاثية الدولية، وصولاً إلى سرقة كلى المعتقلين السياسيين.
العصابة السورية انتهت، ولو أن الثمن كان باهظاً ودموياً. وتبعات ما اقترفته يستلزم عقوداً مديدة.التورط العميق والفادح للميليشيات اللبنانية في "الأعمال السورية"، المقتلة الكبرى التي تسببت في تشريد 13 مليون إنسان، وقتل نصف مليون رجل وطفل وامرأة، وتدمير معظم العمران السوري (تكلفة إعادة الإعمار لا تقل عن 300 مليار دولار).. كل هذا، لن يُمسح أو يحذف لا من الذاكرة ولا من حسابات الحاضر والمستقبل.
وهذه الميليشيات التي أضافت فوق الكارثة السورية، نكبات لبنانية مبتدئة منذ العام 2005 وموصولة بالحرب غير المنتهية مفاعيلها في ديارنا راهناً، لا يسعها بعد اليوم تمويل هياكلها وأجسامها ومؤسساتها، ولا "بيئتها" أو "شعبها"، لا من تجارات غير شرعية، ولا من تمويل إيراني بات عسيراً وقد يصبح متعذراً.وإزاء المأزق المالي الذي يعانيه حزب الله، علاوة على هزيمته العسكرية القاسية، وفي بلد كان هو المساهم الأكبر بخرابه الاقتصادي، وعجزه الفعلي هو والدولة عن تكرار "معجزة" 2006 بإعادة الإعمار، يواجه الحزب خيارات مريرة وشديدة الصعوبة في البقاء على قيد الحياة.
وسيتعاظم المأزق ليكون أشمل وأبعد من التمويل. فتقديم آلاف الشبان أضحية في سوريا سدى، وتكريس عداوة مع الشعب السوري ستكلف لبنان أكثر مما نتصور، والطائفة الشيعية خصوصاً، ثم التضحية مجدداً بآلاف الشبان في حرب خاسرة ومهلكة وغير مبررة.. سيضع الحزب أمام حساب عسير ومصيري.ولأن ما يُطرح هنا لا علاقة له بـ"التشفي" ولا بمطمع الاستقواء أو بمنطق الغلبة، بل بأمل إنقاذ ما تبقى من دولة ومجتمع ومستقبل، يجوز تشجيع الحزب المذكور على "مراجعة" مختلفة تماماً عما أعلنه من مراجعة سياسية وأمنية-استخبارية. فلا يكفي البحث في الثغرات الأمنية التي أودت بقياداته، ولا البحث في سوء التقدير العسكري الذي أدى إلى الهزيمة، إنما التفكّر ملياً بالقناعات الأساسية التي راكمت على مدى عقدين أسباب خراب لبنان وسوريا.
السياسات الممتشقة السلاح والعنف والاقتصاد الأسود واحتقار إرادات الشعوب ومعاداة الدول، والتحالف مع أنظمة استبدادية، وتخريب القضاء وحماية الفساد والفاسدين، واستجلاب العقوبات الدولية والعزلة والحصار وإفقار البلاد.. هذه السياسات ما عاد ممكناً استمرارها.
المفارقة الكبرى، أن تنظيم أحمد الشرع يبدو هو السبّاق في إدراك تلك "المراجعة" وها هو يقطف ثمارها في دمشق. فهل يتعظ حزب الله؟