ليس جديداً على اللبنانيين التهافت على شراء العملة مع كل حدث بارز، يشترون الدولار تزامناً مع الأحداث السلبية والليرة مع الأحداث الإيجابية. وليس هذا ما توحي به أو ما تفرضه الأحداث إنما ما تدفع إليه الشائعات والمضاربات على العملة، فهذا ما يجعل من شائعة ارتفاع أو انخفاض الدولار أو الليرة واقعاً وإن مزيّفاً.
بالأمس وفور ارتفاع أسهم انتخاب قائد الجيش العماد جوزيف عون وتوارد أخبار ترجّح اقترابه من كرسي الرئاسة، باشر اللبنانيون التوافد إلى محلات الصرافة لشراء الليرة مقابل الدولار الفريش. الدولار الذي حرصوا على ادخاره على مدى سنوات بسبب تردي الوضع الاقتصادي والمالية.
نجح المروّجون اليوم من الصرافين والمضاربين بإيهام اللبنانيين بأن انتخاب الرئيس وتمرير هذا الإستحقاق السياسي الهام سيرتد إيجاباً على العملة الوطنية مرجّحين تحسّن قيمتها في مقابل الدولار. في وقت تناسى فيه البعض أن السنوات الخمس الماضية شهدت بعض الأحداث السياسية والاقتصادية الإيجابية كتشكيل حكومة وإعداد موازنات وغيرها وعوّل حينها الكثيرون على تحسّن قيمة الليرة وهو ما لم يستمر لأكثر من أيام وربما ساعات، وأحياناً لم يتأثرسعر العملة على الإطلاق. أما المسار الثابت للعملة على مدار السنوات الخمس فكان نزولاً، انسجاماً مع التطورات والمعطيات الاقتصادية السلبية المستمرة.
أما استقرار سعر الصرف منذ أكثر من عام عند مستواه الحالي 89700 – 89500 ليرة للدولار فمرده إلى قرار سياسي وليس اقتصادياً، حتى أنه بات أشبه بقرار التثبيت الذي رسّخه حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة وأحياه خلَفه وسيم منصوري.تلاعب باللبنانيينيشهد السوق النقدي استقراراً في سعر الصرف، وإن كان صورياً، منذ شهر آذار 2023 ولغاية كتابة هذا التقرير، وقد حافظ على استقراره على الرغم من كافة الأحداث والظروف السلبية ومنها الحرب الشرسة التي شهدها لبنان على مدار 66 يوماً. قد يعزو البعض ذلك إلى إجراءات وسياسة مصرف لبنان الهادفة إلى امتصاص فائض الكتلة النقدية بالليرة من السوق، وتعليق تمويل الدولة، في حين يعزو البعض ذلك الإستقرار إلى قرار سياسي، لكن بصرف النظر عما إذا كان سبب استقرار العملة الوطنية هو أحد العاملين المذكورين سابقاً او العاملين مجتمعين، فإنه لم يتأثر بالعوامل السلبية.
كذلك الأمر بالنسبة إلى العوامل الإيجابية فإنها من غير المرجّح أن تؤثر بسعر الصرف راهناً، بحسب ما يؤكد مصدر من مصرف لبنان. ويقول في حديث لـ"المدن" لا سياسة مصرف لبنان اختلفت ولا القرار السياسي خضع لمعطيات مختلفة، كل ما في الأمر أن عاملاً أيجابياً سيحصل (في حال انتخاب رئيس للجمهورية) ومن شأن ذلك أن يضع قدم السلطة في لبنان على الدرجة الأولى من سلّم الإصلاحات".محاولة للمضاربةما يحصل في الشارع أن بعض المضاربين والصرافين يقومون بالترويج لاحتمال تحسّن سعر العملة ويشترون الدولارات من الزبائن الطامحين لتحقيق أرباح سريعة، من دون الإكتراث إلى مخاطر تلك الخطوة. لا يمكن تجاهل العوامل المتعدّدة المحيطة بالليرة اللبنانية والتي تشي بمستقبل سيئ منها غياب الثقة بالعملة الوطنية كعملة تداول أو ادخار بالإضافة إلى تراكم الاستحقاقات التي تستلزم من الدولة إنفاقاً كبيراً في المرحلة المقبلة ومن شأن ذلك ضخ كميات كبيرة من الليرة في السوق وهو ما يمكن أن ينعكس تراجعاً في قيمة العملة.
كما أن هناك صناديق استثمار تتجه إلى رفع دعاوى قضائية على الدولة اللبنانية في شهر آذار من العام الجاري، ويُضاف كل ذلك، إدراج لبنان على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي (FATF)، وتهديده بالإدراج على اللائحة السوداء ما لم يتم اتخاذ إجراءات إصلاحية عاجلة، ولا ننسى وضع القطاع المصرفي البالغ الخطورة والذي يترقّب إعادة هيكلة في المدى القريب وغير ذلك من العوامل الدافعة لليرة إلى مزيد من الإنهيار.
ورغم كل ما ذكر نجحت المصارف والمضاربون والصرافون بإيهام اللبنانيين بأن قيمة الليرة تتحسّن لكن في حال تمكّن هؤلاء من التأثير على سعر الليرة وإن شكلياً، فإن ذلك سيكون بتواطؤ من مصرف لبنان وهو ما يبدو مستبعداً في الوقت الراهن. فالمصرف المركزي الذي تمكن من تثبيت سعر الصرف رغم الحرب عليه مسؤولية حماية المواطنين اليوم.
وإن كان المصدر المصرفي يستبعد التلاعب بسعر الصرف راهناً فإنه يتخوّف كذلك من تراجع قدرة مصرف لبنان على التدخّل بسوق القطع خلال الأشهر المقبلة، حينها يمكن للعملة المحلية أن تتراجع وتكبّد اللبنانيين، لاسيما منهم الشارين لليرة اليوم، خسائر جمّة.القرار السياسيوكما الكثير من الخبراء يرى البعض أن أساس استقرار العملة في لبنان حالياً ليس بالأرقام إنما بالقرار السياسي القاضي بتثبيت سعر الصرف، ومن هؤلاء الخبير الاقتصادي السابق في صندوق النقد الدولي منير راشد الذي يقول في حديث إلى "المدن" إن القرار السياسي باستقرار سعر الصرف لا يزال سارياً حتى اليوم لكن مَن يضمن استمراره؟ وهل يمكن التعويل على استقرار سعر الصرف بقرار سياسي؟
وينتقد راشد سياسة منصوري القاضية بتثبيت سعر الصرف وإن بشكل غير مباشر "فقد ربطه بسعر المنصة التي لم تعد موجودة وسعرها غير متحرك بل مثبت بشكل غير رسمي من خلال الضغط على الصرافين والاتفاق مع المصارف، ما يعني أن سياسة سعر الصرف عبارة عن تثبيت سعر الصرف بقرار" ويجزم بأنه "لو كان سعر الصرف حراً لكانت قيمة الليرة انخفضت أكثر بسبب انعدام الثقة بها في وقت الاقتصاد اللبناني مدولراً بنسبة تفوق 85 في المئة والاقتصاد ضعيف".
ويعدّد راشد العوامل الضاغطة التي قد تدفع سعر الليرة إلى مزيد من التراجع فيما لو تم تحرير سعر الصرف، من هنا يرى أن استقراره منوطاً بالقرار السياسي ودون ذلك فإنه سيتراجع قطعاً. أما تحسّن سعر الليرة في ظروف سيئة كالتي يمر بها لبنان اليوم اقتصادياً ومالياً وما يرافقها من تداعيات حرب، فهو محض خيال.