على عكس ما يتشدق به رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، إلا أنه يعتبر أحد أكبر الخاسرين من طوفان الأقصى وحرب غزة. وعلى الرغم من نجاحه العسكري على الجبهات كافة في غزة ولبنان وإيران، إلا إنه لم ولن يحقق الانتصار المطلق، والشرق الأوسط الجديد حسب تصوراته لم ولن يُبنى بالقوة العسكرية الغاشمة وقبل ذلك وبعده، ولأن إسرائيل لا تمتلك سياسة خارجية وإنما داخلية. فالإسرائيليون لن يغفروا له أبداً التقصير بحماياتهم - 1200 قتيل ومئات الرهائن والأسرى صباح يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر-، إضافة إلى انهيار سياسته وعقيدته الأمنية التي بلورها خلال السنوات والعقود الماضية كلها، كما لم يغفروا لسلفه إيهود أولمرت ورئيس الأركان الواعد آنذاك – شبيه نابليون إسرائيل إيهودا باراك - الجنرال دان حالوتس، عدم تحقيق الانتصار المطلق حتى مع هزيمة حزب الله في حرب تموز/يوليو 2006، حيث قال تقرير لجنة "فينوغراد" الرسمية للتحقيق في الحرب، إن القادة العسكريين لم ينجزوا المهمة لجهة جلب الحسم والانتصار السريع والمطلق.
بداية، التزمت إسرائيل منذ تأسيسها بعقيدة رئيس الوزراء الأول دايفد بن غوريون الثلاثية المتمثلة بالردع والحسم والانتصار التام بحرب سريعة في أرض العدو بعيداً عن العمق الأمني والإسرائيلي، بمعنى عدم إرهاق الجبهة الداخلية أو العمق الأمني بحرب استنزاف طويلة لا يتحملها المجتمع ولا الاقتصاد في الدولة الصغيرة التي لا تملك أصلاً عمق أمني وحيّز جغرافي بالمعنى الدقيق للكلمة، خصوصاً في ظل الارتكان والعيش على حد السيف والابتعاد عن روح وجوهر السلام وفق الشرعية الدولية مع الدول العربية على علاّت ذلك.
مع توقيع اتفاقية السلام مع مصر وضعف الدول العربية الكبرى وخروج جيوشها من حالة الصراع والحرب مع إسرائيل وتبني الجامعة العربية السلام كخيار استراتيجي مع الدولة العبرية، وفي السياق انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة بنمط أقرب إلى حرب التحرير الشعبية - في لبنان ثم فلسطين نفسها -، لم يتم وضع عقيدة أمنية جديدة أو إجراء تحديث جدي لعقيدة بن غوريون بينما جاء أقرب تحديث من رئيس الأركان السابق الجنرال غادي إيزنكوت والتي تم تجريبها أولاً في حرب لبنان 2006، ثم تم تطويرها لتأخذ صيغتها النهائية في غزة خلال جولات القتال المتعاقبة على مدى عقد ونصف تقريباً.
مع ذلك لا يمكن اعتبار صيغة إيزنكوت عقيدة أمنية متكاملة للدولة العبرية في مواجهة الفلسطينيين والعرب والمحيط المعادي، وبدت محصورة أو ضيقة أمنياً وعسكرياً وجغرافياً، بينما تم ابتداع صيغة جديدة من قبل الحلفاء والقادة الجنرالات في حزب "معسكر الدولة" -إيزنكوت وغابي أشكنازي ومعلمهم بيني غانتس – خلال العشرية الأخيرة بمواجهة إيران وأذرعها الإقليمية، سُميت بالمعركة بين الحروب، مع الانتباه إلى عدم ممانعة الوجود والتموضع الإيراني بحد ذاته وإنما بمعناه الاستراتيجي طويل المدى.
فيما يخص نتنياهو فقد وضع منذ سنوات طويلة - نهاية تسعينيات القرن الماضي - الأسس الفكرية السياسية للعقيدة الأمنية، أولاً، بكتابه "مكان تحت الشمس"، الذى رفض فيه إقامة دولة فلسطينية كما التطبيع مع الدول العربية وفق قاعدة الأرض مقابل السلام، ثم قام بصياغة عقيدة أمنية عبر وضع مسودة وخطوط عريضة ناقشها فعلاً مجلس الوزراء في العام 2018، بينما لم توافق أو تتبناها المؤسسة العسكرية والأمنية بشكل رسمي، حتى مع إدخال نتنياهو نفسها تعديلات عليها بخط اليد بعد ذلك.
استندت عقيدة نتنياهو أساساً إلى قاعدة أن لا داعي للسعي وراء انتصار حاسم ومطلق في مواجهة حركات المقاومة، لأنه لا إمكانية لشيء كهذا في ظل غياب الحروب التقليدية كما كان الحال مع الجيوش العربية.
وبالتالي لا بد من السعي، خصوصاً بعد الوقائع التي خلقها اتفاق أوسلو وتأسيس السلطة الفلسطينية، للحفاظ على الوضع الراهن تحت مسميات مختلفة مثل السلام الاقتصادي، وإدارة الصراع لا حلّه، مع الحفاظ وحتى تأبيد، الفصل والانقسام السياسي والجغرافي بين الضفة وغزة والحفاظ على السلطتين -فتح في رام الله و حماس في غزة، وإضعاف الاولى والتشكيك بمصداقيتها وجدارتها بتمثيل الفلسطينيين، لكن مع إبقائها قوية كفاية للحكم وتحمل المسؤولية دون أن تمثل شريك تفاوضي مقبول مع سلطة مماثلة ولكن بإخراج مختلف في غزة، أي قوية لحفظ الأمن ومنع انهياره، ولكن ضعيفة ومحاصرة ومعزولة وعاجزة عن تشكيل تهديد جدي تهديد لإسرائيل.
لحظت عقيدة نتنياهو كذلك، تصفية القضية الفلسطينية وإزاحتها عن جدول الأعمال الإقليمي والدولي، وعدم اعتبارها وسيلة أو سبيل وطريق نحو شرق أوسطه الجديد - سلام مقابل سلام - المعاكس لما طرحه رئيس الوزراء الراحل شيمون بيرز نهاية تسعينيات القرن الماضي -كان كتاب نتنياهو ردا مباشراً عليه - كنتاج لانفتاح وتواصل وفق قاعدة الأرض مقابل السلام والانسحاب من الأراضي العربية المحتلة عام 1967 وإقامة دولة فلسطينية.
نقضت أحداث العام الماضي العاصفة - طوفان الأقصى حرب غزة - عقيدة نتنياهو من أساسها، وأكدت استحالة الحفاظ على الواقع الراهن في غزة والضفة الغربية، كما أعادت القضية الفلسطينية إلى جدول الأعمال الإقليمي والدولي، وهو ما كانت قد فعلته هبة الشيخ جراح السلمية – أيار/مايو 2021 - بثمن متواضع جداً، وحتى صفر ضحايا، حيث هبّ العالم كله للتضامن مع الشعب الفلسطيني وهبّته السلمية وفق مقولة اللاعب بول بوجبا الشهيرة: "لا داعي لأن تكون مسلماً للتضامن مع القضية الفلسطينية ويكفي فقط أن تكون إنساناً"، والتي جاءت ردّاً على مقولة الرئيس الأميركي جو بايدن، "لا داعي لتكون يهودياً كي تصبح صهيونياً".
في السياق، ردّ نتنياهو على الطوفان بحرب منفلتة أدت إلى تدمير غزة بشكل شبه كامل -86 في المئة - وإعادتها عقود إلى الوراء، كما قام بتوجيه ضربات قاصمة لامست حدود تحطيم وتدمير قدرات حزب الله العسكرية والأمنية بشكل شبه تام، كما باتت إيران نفسها مكشوفة أمام الضربات الاسرائيلية. ومع سقوط نظام بشار الأسد - بدون حضور أي تأثير إسرائيلي أقله مباشرة كونه مرتبط أكثر بعوامل سورية داخلية - تغيّر المشهد الإقليمي برمته تقريباً.
مع ذلك، يجب الانتباه إلى استحالة تحقيق الانتصار المطلق في غزة كما يروج نتنياهو، ولم ولن يتم القضاء على كل عنصر من حماس أو الفصائل المقاومة الأخرى، وهي مهمة تكاد تكون مستحيلة بظل التوحل والغوص الإسرائيلي في رمال بغزة، والهرب المنهجي من الحسم السياسي، باتجاه خلق فوضى لن تخدم الاحتلال على المدى البعيد، بل ستخلق أجيالاً جديدة من المقاومين بغياب الحل العادل للقضية في غزة والضفة بشكل عام.
مع الطوفان والحرب، انهار كذلك ترويج نتنياهو لإمكانية التطبيع مع الدول العربية والمضي قدماً دون حل القضية الفلسطينية أو خلق أفق جدي ومسار سياسي موثوق لا رجعة عنه نحوها.
لا يقل أهمية عما سبق، أن إسرائيل لم ولن تغفر له التقصير والفشل بحماية مواطنيه. ويبدو تشكيل لجنة تحقيق رسمية بإخفاقات وثغرات طوفان الأقصى والحرب وإهمال الأسري وقضيتهم، مسألة وقت فقطـ حتى مع ألاعيب وبهلوانات نتنياهو، خصوصاً مع استئناف محاكمته بتهم الفساد والرشوة وسوء الأمانة، ما يعنى أن حياته السياسية برمتها باتت على المحك. بينما يرى كثيرون في تل أبيب، أنها قد انتهت نظرياً بمجرد توجيه لوائح اتهام وهروبه إلى الحرب وإطالة أمدها عن عمد في غزة، وقبل ذلك خطط الانقلاب القضائية التي أوجدت استقطاباً عميقاً داخل المجتمع الإسرائيلي لن ينجيانه من مصيره المحتوم.
وبالعموم، لن بغفر له الإسرائيليون أبداً التقصير والفشل بحمايتهم في 7 تشرين الأول، كما التضحية بمعظم الأسرى، حتى مع المناورات والإنجازات العسكرية الأخيرة في غزة ولبنان والمنطقة، كون إسرائيل دولة تمارس الديمقراطية، حتى لو كانت لليهود فقط، بينما هي عنصرية وقومية للعرب، كما يقول عن حق، أهلنا في الأراضي المحتلة عام 1948.