2025- 01 - 09   |   بحث في الموقع  
logo الإصلاح والتأهيل تفعلها من جديد " مهارات خلف القضبان" logo اللبنانيون ينتظرون تصاعد الدخان الأبيض من قبة مجلس النواب!.. ديانا غسطين logo اللبنانيون يتهافتون على شراء الليرة... هل ستتحسّن قيمتها فعلاً؟ logo "ملف خاص": مأسسة الضم والأبارتهايد: "خطة الحسم" السموتريتشية logo "جوزاف عون أو لا أحد": ثلاثة خيارات للممانعين logo جهاد أزعور: مرشح "الإصلاح" الذي لامس الرئاسة أولاً logo إسرائيل تحاول تحديد مواقع أسراها بغزة.. وحماس تؤمنهم بالاستشهاديين logo واشنطن: "تحرير الشام" منظمة إرهابية حتى ولاية ترامب
بين بيروت ودمشق "روضَتان"...والمستقبل أمامها مفتوح
2025-01-08 12:55:47

بعض الأمكنة في المدن تحسبه ضروباً من الخيال، والمقاهي إحداها. لكن ليس كل المقاهي. كانت بيروت، لأشهر مضت، في قلب الحدث. واليوم كل أنظار العالم على سوريا وعاصمتها دمشق. للسياسة والتحليل العسكري والإستراتيجي، ناس وإختصاصيون ومنظّرون. نحن في زمن الإرتدادات والتغييرات الجذرية في البلد والجوار. كأننا في فيلم خيال علمي!
بين دمشق وبيروت أشياء مشتركة جميلة لا تُمحى، منها "مقهى الروضة". في الشام، يحتل المقهى مكاناً مرموقاً في شارع العابد قرب البرلمان. أما في بيروت، فهو "يتخذ مكاناً قصياً" قرب البحر، بعيداً من هموم وسموم السياسة وجبروت العسكر. مدينة بيروت تنام على آلاف الأمكنة والأسرار يعرفها من عاش فيها وكبر منذ نعومة أظافره. فبيروت، كمدينة متمايزة عن محيطها، تمتلك عناصر الحياة والإستمرار والإزدهار في زمنَي السلم والحرب معاً. أجدها اليوم تعاند القدر لتعود وتقف على أقدام أهلها ولو بعسر. فما هو سرها؟ هو الناس والأمكنة. أهل بيروت وسكانها يشتغل عليهم الزمن، والتجارب، فيتآلفون مع المدينة، ويصبحون جزءاً منها ومن روحها، ولو أتوا من أمكان بعيدة. بيروت لا تسلم مفاتيحها الروحية الا لمن ينجح في إختبار العيش مع الآخر، ويتلقى جرعات التمدّن وثقافة المدينة والتأقلم مع التناقضات ويتشرب الكثير من الشطارة ومراعاة الخطوط الحُمر. وحده ابن بيروت يعرف تلك الأمكنة الساحرة، الغنية بالتراث والعابقة بالتاريخ، وغير المأخوذة بموجة الحداثة والتحديث التي تجتاح العواصم، لا سيما تلك المفتوحة على البحار.
"مقهى الروضة" هو أحد تلك الأمكنة التي تخبئها بيروت خوفاً عليها من الضياع والإندثار. تطوي جناحيها عليها، كبجعة حنون، لتخفيها عن عيون المارة والسيارات في الشارع العريض الخارجي حيث الضجيج، والسيارات المسرعة، والوقت اللاهث خلف الإستهلاك، ولذة العيش بسرعة جنونية متهورة. يأبى "مقهى الروضة" إلا أن يعيش زمنه المريح، غير المبتور بعد عن الزمن حينما كانت عقارب الساعة تتحرك وفق شروق شمس "رأس بيروت" وغروبها، والذي لا يشبه أي حركة للشمس في مدينة اُخرى.يختبىء المقهى خلف تلال عالية نسبياً، يحرسها موقع للجيش اللبناني. تلك التلال التي كان يكسوها العشب ونبات الحميضة، حيث كنا نجلس صغاراً لمتابعة تمرينات الفريق النبيذي (النجمة). كان أخي الأكبر يتدرب معهم ضمن الدرجة الرابعة. إلى يسار الزاروب الطويل، مدينة ملاهٍ قديمة تمتاز بدولاب قلّاب ضخم، يصدر صريراً في الأعياد، ويضاء ليلاً، ويقود الى المقهى المقصود من عارفيه ومدمنيه، وكل زائر فضولي تقوده قدماه أو عجلات سيارته الى ما تبقى من "جنة رأس بيروت" أيام زمان.هنا توقف الزمن منذ فترة طويلة وقبض عن طيبة خاطر على بيئة لم تعرف ضجيج المدن. الى يسار "مقهى الروضة" يقع مسبح "اللونغ بيتش" نصف الشعبي، ثم يليه مسبح "السبورتنغ" النخبوي. والى اليمين، مسبح "الحمام العسكري" الذي أسسته قبل الإستقلال جماعة "الحرية والمساواة والأخوة". يبقى المقهى حلقة وسطى بين شاطيء صخري يجمع الإنضباط العسكري والأجواء الشعبية وصولاً الى النخبوية المخملية.
تدخل المقهى، فتنحني لك الإشجار المُعمّرة، إحتراماً وترحيباً. تشعر أنك في بيتك. كما تنحني لك الكراسي المستريحة إلى جانب الطاولات الموزعة في أنحاء المقهى الحديقة. فضاء مفتوح على السماء وأفق البحر الغربي الذي تقترب منه الشمس وقت الغروب، فيحل الأحمر ويكثر الرواد. أشجار الزنزلخت وغيرها من الأشجار القديمة التي كانت تلازم بيوت "رأس بيروت" يوم كانت تُعتبر ريفاً مقارنة ببيروت – تحت... أي "الأسواق" اليوم. المطبخ مكشوف للزائرين بشباك زجاجي عريض، فترى الموظفين يعملون في الداخل تحت إشراف "الحاجّة" ومراقبتها الدقيقة. ندل المقهى، جلهم من الأخوة السوريين، يمتازون بتهذيبهم وخدمتهم السريعة ويحفظون الزبائن. فالصباح له زبائنه، كذلك الظهيرة والمساء. يتنقلون بين الطاولات برشاقة وخفة، حاملين صواني القهوة والشاي والمقبّلات الى الطاولات المقصودة، كل حسب طلبه. العلاقة بين زبائن ورواد "مقهى الروضة" والندّل وأصحاب المقهى، علاقة تتخطى الرسميات والشكليات. فالجو العام، خصوصاً في فترة ما قبل الغروب، تسوده الألفة والإحساس بالراحة.كأن الناس تعرف بعضها البعض... عائلات من بيروت والمحيط تصبح عائلة واحدة في ظل أشجار المقهى، ونسيم البحر القريب يُسكر الحضور.أصحاب مقهى الروضة يهتمون بمقهاهم كأنه بيتهم الخاص. هم توارثوا المكان من جيل الى جيل. من الأجداد الى الأحفاد. صار المقهى جزءاً من وجدانهم وعيشهم اليومي، يسكنهم خوف من الغد على مصيره في مدينة تعصف بها رياح التغيير، فتتساقط فيها المقاهي صريعةً وتختفي مع كل موجة تحديث عمراني. الزائر الجديد في "مقهى الروضة" يستحيل عليه التمييز بين أصحابه والرواد. لديهم جلستهم الخاصة وركنهم الخاص في مكان قريب من المدخل والمطبخ. الحاجّة وابنها الشاب يراقبان كل شاردة وواردة. عندما تستدعي الحاجة، تستنفر الحاجّة وتصير تصول وتجول بين الندل في المطبخ، وبين الطاولات، تلقي التحية على الزبائن، لا سيما النسوة المسنّات. وقد تجالس أفراد عائلة ذات قربى لها أو معرفة. صاحبة وجه بشوش، مُرحّب، لا تغيب عنه النظرات الجدية الفاحصة عندما يلزم الأمر. للحاجّة هيبتها وحضورها بين الندل وتعليماتها تلبى على الفور.
الخصوصية الأهم لمقهى الروضة، هي عدم توافر خدمة الإنترنت المجانية المنتشرة في مقاهي بيروت اليوم. فرواده يجدون في ذلك فرصة للإنقطاع عن الأخبار و"السوشال ميديا"، وكل شكل من أشكل التوتر. قد تجد عدداً من الرواد جالسين أمام كمبيوتر محمول يدخنون النارجيلة! وهذا شكل من أشكال المزاوجة والتلقيح بين الكيف والعمل الفكري المنتج. لقاح بيروتي النكهة بين الشرقي والغربي.في هذا المكان المختفي خلف مدينة الملاهي ودولابها الضخم، تكتسب الثرثرة والدردشة بين الرواد لذة خاصة. الناس هنا أقرب من بعضهم البعض، وأحاديثهم أكثر حميمية. السماء سقفهم الجامع، والبحر جارهم، ورائحة النارجيلة المعسل والعجمي يحملها الهواء في الأجواء. الجو العام في "مقهى الروضة" تسوده سيمفونية مدروسة من خليط الأصوات والروائح: أحاديث الجالسين حول الطاولات من كل الأعمار، ضحكات وثرثرات من هنا وهناك، أصوات أولاد يركضون خلف كرة، صوت طاولات الزهر وإعتراضات وحماسة البعض، وأصوات خرير مياه الأراكيل المنتشرة في كل مكان. و"أنفخ عليها تنجلي".في الصباح، تقصد المقهى فئة خاصة من الرواد: المثقفون وكل من ليس له دوام عمل وظيفي، وكل صاحب أو صاحبة همّ وغمّ لا يجد أمامه الا أفق البحر للشكوى. أو من يرغب ببدء صباحه بفنجان قهوة وسط طبيعة تجمع بين الأخضر والأزرق. والمقهى مكان ممتاز لعقد الصفقات التجارية ولفض الخلافات. وفي موسم الإنتخابات النيابية يتحول المكان الى لقاءات موسعة لحشد الصفوف وعقد الإجتماعات. في فترة الظهيرة، يقصد المقهى عدد من الزبائن لتناول وجبة الغداء. أما فترة بعد الظهر والمساء، فهي الوقت الذهبي للمقهى حيث تمتلىء المقاعد والطاولات للإستراحة والترويح من تعب النهار. منظر المغيب لجهة الغرب لا مثيل له، كثر يجلسون في الجهة الغربية – وهي الأطول – للإستمتاع بمشهد الغروب. يلتقطون الصور بعد الطلب من النادل برفع الستائر العتيقة التي تحجب المشهد كاملاً.يعرف رواد "مقهى الروضة" بعضهم البعض بالشكل وتكرار الرؤية في المكان عينه. يتشابهون، وإنتماؤهم الطبقي والمناطقي يكاد يكون متجانساً. لا مجال للمشاوفة والتنمر في هذا المكان. رغم السيارات الفارهة المركونة في الخارج، لا حاجة هنا لهندام رسمي أو باذخ. رواده من النخب الباحثة عن البساطة والبُعد من حب المظاهر. متشابهون في السلوك والمفاهيم كأنهم من عائلة واحدة. عرفتُ المقهى صغيراً برفقة أخي، بهدف صيد السمك بأدوات بدائية على الصخور والبرك المواجهة للمقهى. لم يكن الدخول ممنوعاً للوصول الى المياه العميقة حيث كان على اللسان الصخري برميل باطون مثبت على علو كي يجلس عليه الصياد ليحمي نفسه من إرتفاع الموج. وعرفته شاباً برفقة الأهل أيام الآحاد، وفي أيام الدراسة الجامعية برفقة الزملاء والزميلات. وصرت زبوناً برفقة أولادي، الى أن كبروا وصاروا بفضلون الأماكن التي تؤمّن الألعاب الألكترونية. مرّت سنوات، وبقيت وفياً للمقهى، فنحن رواد هذا المكان نكاد نشكل حزباً أو طائفة واحدة. أسستُ، بين اللعب والجد، لقاء باسم "السبتية" نعقده كل مساء سبت برفقة الأصدقاء عبد الرحمن أياس ويوسف النعنع. هذا اللقاء الأسبوعي حوّلنا الى شلة ثقافية وقرّب أواصر الصداقة بيننا. وانضمت الى اللقاء، الصديقتان ريتا ورانيا، اللتان اعترضتا على عادة التحديق من قبل بعض الندّل. فنقلنا اللقاء بصورة مؤقتة الى شارع بدارو. وكان يشاركنا اللقاء أحياناً العميد رياض غندور الذي نجح مراراً في سحبنا "مخفورين" برضانا الى "المسبح العسكري". لكن "لقاء السبتية" عاد بزخم أقوى إلى المكان الأول، حيث الشغف الأول.
السنة الماضية، عاد ابني من كندا في أول زيارة له بعد سفر طال، فقررت العائلة تناول العشاء في مطعم فاخر في عين المريسة. كانت الطاولات ممتلئة متلاصقة وسط حال من الضجيج والزحام والأراكيل كما المعارك في البادية "تتكسر النصال على النصال". والأسوأ، أن معظم الحضور كان تقريباً من لون طائفي واحد، وأن المظاهر والتحديق كانت سيدة الموقف. شعرت بضيق واختناق، فطلبت من الأولاد بعد العشاء الانتقال الى مقهى الروضة لمتابعة السهرة على قدح شاي ونفَس نارجيلة معسل.في "مقهى الروضة" وقف عبد الحليم حافظ وفريد شوقي ونور الشريف ونجاح سلام أمام الكاميرا خلال تصوير لقطات من أفلام سينمائية صُورت في لبنان. صمد هذا المقهى الذي أسسه أحد أجداد آل شاتيلا قبل ذهابه الى الحرب مع الجيش العثماني، فتسلّمت زوجته العمل لتعيل أولادها. ضربت المقهى موجة تسونامي العام 1967 فدمرته، فأجرى أصحابه إتصالات وصدر مرسوم جمهوري لإعادة إعماره. وهو المقهى الوحيد الذي سمح بإقامة عرس لزبونة وفية وتقصده مراراً (المهندسة منى حلاق وزوجها أنس غيبة). "الله يخليكم... خلوها ع الطبيعة".. هو لسان حال رواد المقهى جميعاً، تعبيراً عن تعلقهم بالمقهى كما هو، من دون تغيير أو تعديل. الكل يُجمع على أن "الروضة هي قهوة الكل".. أو "مقهى الكل". بين بيروت ودمشق"روضتان"... والمستقبل أمامهما مفتوح.


المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2025
top