يواصل بترام شالاش السير في الدرب الذي رسمه لنفسه منذ العام 2015، حين شاء عرض مساهماته في الفن المعاصر. تقيم "غاليري جانين ربيز" (الروشة، بيروت) في الوقت الحالي معرضاً للفنان تحت عنوان "رؤى مجسّمة" Stereo Vision، يضم أعمالاً مبتكرة ويدعو للتفكير في أمور الحياة ومسائل أخرى إجتماعية وثقافية.
في مجموعة من العبارات التي كتبها شالاش مقدّماً بها معرضه، أو ممهداً له، لا نجد ترابطاً بين الكلمات في الجملة الواحدة، علماً أن تلك الكلمات لا تنحو، عمداً، صوب تكوين جملة لغوية. الكلمات لا تجتمع على معنى متكامل، بل تفرّق بينها فواصل، وكأن الأمر يتعلّق بمجموعة من الأفكار والهواجس. الكلمة الواحدة قد تقودنا إلى جملة من التواردات الذهنية: "طبول أخرى"، "براميل"، "حشود متجمعة"، إرتعاش"، "رعب"، "إقليم"، إلى ما هنالك من تعابير لا نرى ارتباطاً في ما بينها، سوى أنها صادرة عن الإنسان نفسه. الأمر يذكّرنا بالمراحل الإبتدائية في مناهج التعليم التي عشناها، ثم عفى عليها الزمن، حين كان يُطلب منا أن نضع كلمة ما في جملة مفيدة.
يوضح الفنان أن مجموعة الأعمال المعروضة هي محاولة لتقطير الأحداث والصور والخبرة الجماعية في استعارات تصويرية. نفهم من ذلك أن بترام شالاش أراد إعطاء شكل "مرئي" للأفكار والمفاهيم والسيناريوهات. على أن كلمة مرئي لا تخدم هنا سوى هدف تحويل الأفكار إلى نُظُم تشكيلية. لذا، فهو يسخّر أسلوبه الخاص في سبيل تأدية هذه المهمة، من دون الأخذ في الإعتبار الأبعاد الواقعية في لوحاته، كما عوّدنا على ذلك الفن التشخيصي بوجوهه المتعددة، المعتمَد حتى اللحظة من قبل فنانين آخرين. من هذا المنطلق لا يمكن أن نبحث في أعمال شالاش عن تفسير مكتمل أو رسوم توضيحية ما. الفنان يسعى لتحويل الفكرة إلى صورة، لكن الصورة التي نراها في المعرض هي على درجة متقدّمة من الخصوصية.
وإذا كان الفن التشخيصي يهدف، بحسب درجات متفاوتة بين عمل فني وآخر، إلى إنتاج صورة واقعية، نسبياً، من شأنها أن تغطّي تفاصيل الفكرة، أو بعضاً منها، فإن هذا الهدف يتناقض مع الأعمال المعروضة إلى درجة معينة، وذلك بالرغم وضوح الشكل عموماً. إذ من الواضح أن شالاش لم يعبأ بالتفاصيل، وما تتطلّبه، غالباً، من معالجات متكرّرة للسطح التشكيلي، ومن تكديس لطبقات اللون، بل على العكس من ذلك، فإننا نشهد معالجة سريعة نسبياً لسطح القماش. فالناظر، العارف، إلى أعمال الفنان سيدرك أنها نُفذت بضربات سريعة، وأحادية الحركة في بعض الأحيان. هذا الأمر، إن أشار إلى شيء، فإلى أن جمع الإلهام والأفكار المختلفة قد أدّى إلى إنشاء لوحة مزاجية، ستكون بمثابة مرجع مرئي للفكرة المطروحة، أو بالأحرى للأفكار العديدة التي ذكر الفنان بعضها في النشرة المخصصة للمعرض.
ليس هناك في الأعمال من تركيز على النواحي الجمالية الكلاسيكية، لكن شالاش لا يهمل اللعب على الألوان والضوء والظل، أو حتى على الأنسجة، لإضفاء جو فريد على رسوماته. ما من شك أن ممارساته الفنية متجذرة في طبقات الأشكال والأفكار، حيث ينتج أعمالاً تستكشف تعقيد الأفكار والأحداث، وذلك من خلال التجريب المستمر مع الأشياء والمساحات المتداخلة كوسيلة لتسجيل الضوء الذي يشبه ذاك المتسرب من بين أوراق الشجر والتقاطه. الشكل حاضر في الأعمال التي نحن في صددها، علماً أنه سيكون من الصعب تحديد هويته. أشكال تنبت من الأرض وتسبح في المدى السماوي. يمكننا أن نتخيّل أشجاراً مقطوعة أو أغصان ورزمة أوراق خرجت من شجرة مقطوعة بدورها. تركيبات صنعها الإنسان، ثم عبثت بها ظروف الطبيعة. وربما، أيضاً، عالم حلمي ذو صلة بصور الخيال العلمي.
وفي كل الأحوال، فإن أعمال شالاش تنبع من الطبيعة واللغة البصرية، حيث تتكثف الأفكار السياسية والأحداث التاريخية والتأملات في صور شعرية مجازية. هذا، إضافة إلى أن أعماله تتناول التوترات بين العبث والسامي، والفرد والجماعة، ما يشجع المشاهد على التشكيك في تصوراته المألوفة، ويتم ذلك عبر "لغة فنية تتنقل بين السخرية والإخلاص، مما يدفع حدود اللغة البصرية لتحدي المفاهيم التقليدية للواقع، وفي ذلك دعوة إلى مشاركة أعمق في تعقيدات الحياة المعاصرة"، على ما ورد في النشرة الخاصة بالمعرض.
بترام شالاش من مواليد الأشرفية في العام 1988، وهو رسام علّم نفسه بنفسه، وتمتد ممارسته الفنية إلى الرسم والسيراميك والتصوير الفوتوغرافي والفن الرقمي. ومن خلال خبرته في صناعة المجوهرات، يستكشف شالاش موضوعات الإدراك والهوية.
نال شالاش جائزة مؤسسة بوغوسيان للفنون البصرية في العام 2024، وتمت دعوته إلى الإقامة الفنية Arts dans les Cités من قبل جمعية Petites Cités de Caractère de Bretagne بالتعاون مع المعهد الفرنسي في لبنان. بالإضافة إلى العديد من المساهمات في المعارض الجماعية منذ العام 2015، أقيم أول معرض فردي لشالاش بعنوان "اضمحلال الكذب" في عام 2018 في KED - بيروت. قدم معرضه الفردي الثاني "الحزن بعد" في ARTLAB العام 2019. شارك في معارض جماعية، مثل "30 عامًا من الألوان" (2023)، "رؤى اليوم" (2021)، "17 تشرين الاول 2019" (2020) و"بيتصاروف" وهو معرض لصالح المكتبة الوطنية اللبنانية، في عام 2016.
أعماله موجودة في مجموعات خاصة في لبنان وأمستردام وفرنسا.
(*) يستمر معرض "رؤى مجسّمة" حتى 17 كانون الثاني في "غاليري جانين ربيز" – الروشة، بيروت.