التهريب بين لبنان وسوريا ليس جديداً، وكما يردد المُسِنُّون من قاطني المناطق الحدوديَّة أنَّ عمر التهريب من عُمْرِ الحدود نفسها. ليس حكرًا على لبنان وسوريا، وليس استثناءً، فالرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب يضع في أولوياته محاربة التهريب عبر الحدود مع المكسيك وكندا، وقصص بارونات المخدرات في أميركا الجنوبية تَتَصدَّر الشاشات بعملياتها العابرة للحدود.ستة معابر شرعيَّة تقتصر المعابر الرسميَّة البريَّة بين البلدين على ستة هي: معبر المصنع، معبر القاع، معبر الدبوسيَّة، معبر مطربا، معبر العريضة، ومعبر تلكلخ.
بينما المعابر غير الشرعية يزيد عددها عن 120 معبرًا، معظمها بين منطقة القصر ووادي خالد من جهة لبنان، والقصير وتلكلخ من الجهة السورية.التهريب من الأفراد للدولةقبل الثورة السورية عام 2011، كانت عمليات التهريب تقتصر على الأفراد أو على من يطلقون على أنفسهم اسم "الشُلَّة" كتعبير عن مجموعة من المهربين الشركاء، توسعت وصارت على مستوى جيوش منظمة. بعد العام 2012 أخذ التهريب شكلًا آخر، وبُعدًا آخر، بات اقتصادًا موازيًا رسميًا. تشرف عليه الفرقة الرابعة من الجانب السوري، ويحتكره من الجانب اللبناني ويُشرِف عليه رجال العشائر والمهربين ممن يدورون في فلك "حزب الله"، وبرزت سرقة السيارات التي اقتناها ضباطًا سوريون كبار، وشكلت المخدرات - الكبتاغون التي أرَّقت السعوديَّة وكل دول الخليج العربي، مادة دسمة، ومربحة مادياً، يستخدمها النظام السابق ويستثمرها في محاولاته للابتزاز السياسي.التهريب يَتَبدَّل طائفيًاوفي بلد كلبنان حيث كل شيء طائفي حتى الهواء، لم يبق التهريب بعيدًّا عن الطائفية، خصوصاً مع الإنقسام الحاد الذي يعيشه لبنان، فمنذ ثلاثة عشر عامّا خلت كانت أغلب عمليات التهريب حكرّا على المهربين من أبناء الطائفة الشيعية، مع "قبة باط" من "أزلام" النظام السابق في منطقة وادي خالد(بينهم نواب حاليون وسابقون)، وبعد سقوط النظام السوري، انقلبت الصورة بالكامل، باتت عمليات التهريب تتم عبر المناطق التي عانت من الإقفال الكامل سابقًا، إنطلاقًا من الحدود الشمالية إلى مشاريع القاع وجرود عرسال والبقاع الغربي.
في حديث إلى "المدن" يكشف المُهرب القديم ط.ف. العائد إلى التهريب مجدداً: " أكثر من عشر سنوات مرَّت لم نكن نعمل خلالها في "التهريب"، طرقاتنا في عرسال مقفلة كلّيًا، والعمل على طريق القصر دونه صعوبات كثيرة ناهيك عن الخوات والتشليح، أما اليوم فقد هبَّت رياحنا (ضاحكًا) وعلينا اغتنام الفرصة". وحول المخاطر والصعوبات فيقول :" الصعوبات هنا في لبنان، نعاني بعض الشيء، أمَّا في سوريا الأمور مُسَّهلة تمامًا، نحن نأخذ لهم ما يحتاجونه من محروقات وغاز وغيره".بين القانون والواقعأما البضائع التي تشملها عمليات التهريب فهي كثيرة ومتنوعَة، خضار، فواكه، مكسرات، أقمشة، إسمنت، معدات الطاقَة الشمسيَّة، وما تطلبه السوق السورية، لكن تأتي المحروقات في مقدمتها وأكثرها ربحًا، فيما المخدرات والسيارات المسروقة تغيب بشكلٍ كامل وفق ما يُؤكده المهربون.
يلفت رئيس بلدية القاع المحامي بشير مطر إلى مرور قرابة 45 صهريجًا من المحروقات عبر بلدته، يحمل كل منها حوالي 20 طنًا، أي ما يعادل 900 ألف ليتر، 6,3 مليون ليتر أسبوعيًا. لا يخفي خشيته من أن :" يرافق عمليات تهريب المحروقات تهريب للأسلحة والأشخاص، ما يُنذر بالفوضى، ويُعرقِل ترسيم الحدود واستقرارها، وقد يتسبب ذلك بمشاكل أمنيَّة مثل التي حصلت في بلدة معربون مؤخرًا" داعيًا القوى الأمنيَّة "إلى مكافحة هذه العمليات حرصًا على الاقتصاد الوطني".
كلام "الريس" مطر يعارضه أبو محمد ح. إبن بلدة عرسال الذي يقوم مع شركائه بتهريب المحروقات عبر مشاريع القاع، فيسأل عن تقديمات الدولة للناس قبل منعهم من التهريب : "يعمل معنا سبعة سائقين وسبعة عمال مساعدين، أُجرة السائق تبلغ يوميًا 100 دولار والعامل 25 دولارا، فهل ستؤمن لهم الدولة هذا المردود؟ وهل ستدفع عنهم أقساط مدارس أطفالهم؟ وهل ستؤمن لهم مواد التدفئة؟ نحن نعمل بالتهريب وهذا صحيح، لكننا في المقابل نستر حال عشرات العائلات، ونوفر دورة اقتصادية كاملة"، يختم بإصرار وتأكيد: "لا أحد يزايد علينا بموضوع أمن البلد واقتصاده، فنحن لا نعمل بتهريب السلاح ولن نعمل، بل نهدد من يحاول تهريبه بالتبليغ عنه، وكل ما ننقله للداخل السوري بضائع مجمركة من الدولة"."دفعنا الثمن"إغلاق المعابر التابعة للنظام السابق خلفت من دون شك تأثيرات سلبية، سياسية اقتصادية واجتماعية، في البيئة المقابلة لها لجهة لبنان، تحديدًا في مدينة الهرمل وبلدة القصر وقرى قضاء الهرمل، التي كانت تعتمد اقتصاديًا على التهريب بشكل أساسي.
يشتم أبو على ج. من أبناء الهرمل الحدود والفقر والحروب فيقول في اتصال مع المدن: "للأسف السياسة والطائفية تدخل في كل شيء هنا، أنا اليوم كلبناني شيعي لا أجرؤ على الذهاب إلى سوريا بعد أن كنا نسرح ونمرح فيها هلق صارت محرمة علينا" ويتابع "كنا نعمل ونعيش بهدوء، حاليًا كل معابرنا عبر القصر مقفلة. ندفع ثمن خيارات سياسية لم يستشيروننا بشأنها، لكننا صفقنا لها فلماذا الإنكار والمكابرة"، وحول عمله في المستقبل وأمثاله من المهربين في منطقته فيقول: "الآن نبحث عن شركاء غير مغضوب عليهم في سوريا، نعم أبحث عن شركاء سُنَّة، فهل سأترك الصهاريج عندي تأكلها الشمس والغبار؟ أو أبيعها بنصف سعرها؟ هذه مهنتنا نعيش منها بالآلاف (أرقام فعلية وليست وهمية)، نعيش من مداخيلها برفاهية، لا نعرف مهنة غيرها، وما هو البديل أصلًا... بدك ياني اشتغل بالفحم مثلًا". يختم ضاحكًا.
في الشكل تعتبر قدرة الدول على ضبط حدودها ومنع خرقها، من دلائل السيادة ومن علامات قوة هذه الدول ومنعتها، فهل ينطبق ذلك فعليًا على لبنان وسوريا وسط هذا التداخل الجغرافي التاريخي والإنساني؟ النسيج الاجتماعي بين الشعبين قَدَرٌ لا يمكن الفكاك منه بالتمنيات والشعبويات ورفع السقوف السياسية، ولا بالعنصريات البغيضة، خصوصاً وأنَّ سوريا هي المنفذ البري الوحيد للبنان.