حين نتكلّم عن قضية الصراع العربي الصهيوني لا بدّ من لفت عناية الشباب العربي -هذا الجيل الفتيّ- الذي لم يتسنَّ له النظر إلى طبيعة الصراع من منطلق سياسي نظري بل اختُزلت الصورة المشوهة أمامه في البُعد المذهبي والديني فقط، وكأنّ الصراع هو بين الإسلام واليهود، أو بين من له أحقيّة الفوز من المذاهب المسلمة بقيادة المقاومة والصراع في وجه اليهود، والفوز بمرضاة اللّه طلباً للشهادة والعلا.
ولكنّنا في هذا المقال سوف نناقش طبيعة الصراع من منظاريْن: الأوّل جيوبوليتيك وموازين القوى الدولية، والثاني هو المنظار الإنساني القيمي.
في المنظار الأوّل، وبالاستناد إلى مؤتمر بازل عام ١٨٨٧، ثمّ واقعة مؤتمر كامبل بنرمان عام ١٩٠٧ في بريطانيا، وبعدها وعد بلفور عام ١٩١٧، نرى أنّ مؤتمر كامبل بنرمان عام ١٩٠٧ الذي جمع قادة الدول الأوروبية هو مَن مثّل نقطة التحوّل في مشروع إقامة دولة الكيان، وهناك قد تلقّف كامبل بنرمان رئيس وزراء بريطانيا آنذاك دعوة مؤتمر بازل لإقامة دولة قومية موحّدة لليهود، وفي حينها تمّت قراءة التحوّلات الدولية وبداية تفكّك قبضة الإمبراطورية الأوروبية الاستعمارية على العالم بالمفهوم الجيوبوليتيكي، ومن خلال تلك القراءة للتحوّلات القائمة في العالم، وخشية من احتمال صعود العالم العربي والإسلامي وتهديده ربما للمصالح الاستعمارية الغربية في المستقبل، اتّفقوا سرّاً ومن مفهوم علم الجيوبوليتيك وتوظيف الجغرافيا في خدمة السياسة أنّه ينبغي زرع كيان استيطاني غريب في جسد تلك الأمّة يعمل على ما يلي:
أوّلاً: تعطيل أيّ فرص للوحدة بين مشرق الأمّة العربية ومغربها، وعلى كافّة الصُعد سواء السياسي أو الاقتصادي سيّما أنّ المنطقة العربية غنيّة جدّاً بالثروات.
ثانياً: الحفاظ على الهيمنة الغربية من خلال دعم هذا الكيان الذي ينسجم إلى حدّ كبير مع طبيعة الثقافة الغربية، ويُستخدم كهراوة لتأديب أيّ من الأنظمة المحيطة به التي قد تحاول التمرّد على هيمنة الغرب، وكان هذا جلياً ضدّ عبد الناصر وتجربة العراق.
ثالثاً: خلق توتّر دائم في الإقليم يمنع أيّ قدرة على التكامل الإقليمي بين العرب وجيرانهم، وتقويض أيّ جهد إرادي شعبي لبناء نظم سياسية تحقّق بناء دول قادرة، تلتفت للتنمية والبحث العلمي والصحّة والحرّيات العامّة والعدالة الاجتماعية، بدل تسليح الجيوش وخدمة قوانين الطوارئ والتمسّك بالأنظمة البوليسية خشية على أنفسها من هذا الكيان.
وفي هذا السياق جاء وعد بلفور بإقامة الدولة على أرض فلسطين، وما زلنا نشاهد فصوله حتّى يومنا هذا، والملفت في الأمر وما نودّ تسليط الضوء عليه أنّ أمّتنا ومنذ مئة عام لم تهدأ ولم تملّ من النضال لبناء حركات تحرّر على كافة الصعد السياسية والاجتماعية والثقافية، منها ما كان في وجه الاستعمار ومنها ما كان في وجه الطغيان.
لكنّ العامل المشترك الذي كان يقف صدّاً في جميع تلك المحاولات ويعطل قدرتها على النفاذ والتحقّق هو وجود هذا الكيان.
ما نودّ قوله بالمحصّلة أنّه لا نهضة ولا تحرّر ولا فرص نهوض في أمّتنا طالما هذا الجسم الغريب مزروع ليقيم الشرخ، فوجوده مصلحة استعمارية من منظار الجيوبوليتيك وخلق التوازن الدولي لصالح الغرب، بمعنى أنّ وظيفة الكيان هي مصلحة غربية لتعطيل سُبُل نهوضنا.
ولهذا نقول لشبابنا العربي أنّ قضية التصدّي للمشروع هي من سوف تفتح الباب للأجيال القادمة للتنعّم بالأمن والاستقرار وثروات الأمّة والبحبوحة، وليس كما يحاول البعض عبر الترويج لخطاب انهزامي يسوق لتقبّل الذلّ والهوان، وجلّ طموحه كطموح البهائم بالمأكل والملبس والمشرب.
بصيغة أخرى طموحات البحبوحة والرخاء التي ينادي بها البعض تنطلق من التصدّي لمشروع الهيمنة، أمّا ما دون ذلك فهي مكاسب رخاء مرحلية لن تلبث أن تتلاشى كلّما شعر هذا الكيان أنّه يستطيع الانقضاض على أيّ عنصر من العناصر المتوفرة في يد الأمّة -حقول نفط، جيوش، إمكانيات، مراكز أبحاث، مشروع بناء مفاعل نووي، ممرّات مائية، مياه، بحور، أنهر-، وكلّ ما يخطر ببال أيّ مراقب من عناصر تكوّن القوّة والاستقلال.
في المنظار الثاني: الإنساني والقيمي، بمعنى ما يميّز الإنسان عن البهائم أنّه يحمل قيم ومفاهيم إنسانية ترفض الظلم والهوان، وتنتصر للمستضعف والمغلوب، وتقدّس الشعور بالكرامة التي تعكس الاعتزاز بالنفس، والتمسّك بالحقوق، ورفض الذلّ أو الانتهاك، والإحساس بالقيمة والقدرة على العيش بكرامة واستقلالية.
وما نود الإشارة إليه هو أنّ قضية مجابهة هذا المشروع واجب إنساني خُلُقي بغضّ النظر عن جميع الأبعاد الأخرى كالدين والثقافة.
بمعنى أنّه إذا لم تدفعنا الحمية الدينية والثقافية لمجابهة هذا المشروع، فعلينا التسلّح بدوافع المُثل والقيم الإنسانية التي بفطرتها ترفض كلّ ممارسات هذا الكيان، سواء في الحروب من قتل وسفك وتشفّي بدم الأبرياء، أو الضرب بعرض الحائط بجميع المواثيق والأعراف الدولية، أو بتاريخ استيطانه واغتصاب الأرض وتهجير أهل فلسطين وجعلهم لاجئين في الشتات.
بناءً على ما تقدّم إنّ حتميّة الصراع مع هذا السرطان لسنا نحن من نقرّره، بل طبيعة ديناميكيات الجغرافيا والتاريخ والثقافة والقيم والمثل الإنسانية، أمّا من يريد أن يقتات على فتات مائدة الاستكبار والذلّ الصهيوني فليذهب للتسليم بالقضية مقابل فتات ذلّ مرحلي لا يغني ولا يسمن من جوع طموحات تحرّر الأمّة وتشكّل هويتها.
موقع سفير الشمال الإلكتروني