يقال في علم المنطق إن “من أصعب الصعوبات توضيح الواضحات”، ولكن المشكلة تكمن دوماً في التعريف الذي يأخذ الواضحات إلى دوامة التعقيدات والاجتهادات في القصد والمضمون، وتسحبها إلى الارتباطات والخلفيات بما يجعل البديهيات تبدو وكأنها أحجية تقارب النقاش في جنس الملائكة.. هذا هو ديدن السياسة في لبنان حيث يقرأ كل فريق في كتابه الخاص وبلغة خاصة تختلف عن لغة الآخر، فيغني على ليلاه دون أن يجهد لكي يلتقط طرف خيط يجذب الآخر إليه نحو نقطة التقاء.. إنها قصة “إبريق الزيت”.
وليس من الضرورة في هذا السياق طرح أمثلة ونماذج لتوضيح المقصد فتصريحات ومواقف معظم السياسيين في لبنان تزخر بالمتناقضات على الرغم من تشابهها في اللفظ والمضمون، ولعلّ الاستحقاق الرئاسي المنتظر بعد يومين يعطي صورة عن المشهد السوريالي للثوب اللبناني الذي تشارك في حياكته عواصم الشرق والغرب، وبات هذا اللبنان على صغر حجمه محور الكون ربطاً بتقاطعات المصالح العالمية فيه، فلماذا يحوز موقع رئاسة الجمهورية على هذه الأهمية البالغة حتى تزدحم فيه عوامل الضغط الخارجي!؟ ولماذا تتسابق الجهات والأحزاب والشخصيات لنيل رضا هذا المبعوث أو ذاك لتزكيته في هذا المنصب العتيد!؟
ما سبق قوله ليس جديداً على السياسة الهجينة في لبنان حيث غالباً ما كان يأتي الرئيس معلّباً بقرار إقليمي أو دولي أو نتيجة توافقات الدول المعنية بالقرار اللبناني، ولكنها من المرات النادرة التي لا يعلم فيها اللبنانيون ومعهم العالم بأسره هوية الرئيس المنتظر قبل موعد جلسة الانتخاب، ولئن رأى البعض في هذا الأمر دليل عافية تمخضت عنه اللعبة الديمقراطية، إلا أن الحقيقة عكس ذلك فهذه هي المرة الأولى التي يشهد فيها البلد هذا الكمّ من التدخّلات الخارجية المتباينة والاشتباكات الداخلية المحمومة حتى داخل الصف الواحد أو ضمن التكتلات الطائفية والسياسية الواحدة.
إنها الواضحات التي يصعب توضيحها، فغالبية الأطراف تدّعي عدم ارتهانها للقرار الخارجي وتطالب بانتخاب رئيس بثوب لبناني دون ضغوط من وراء الحدود، وكأن ما نراه من اجتماعات يترأسها موفد أمريكي من هنا وفرنسي من هناك، وترشيح أسماء ترضى عنها هذه العاصمة من هنا أو عاصمة أخرى من هناك، ليست سوى أضغاث رؤى يبتدعها العقل اللبناني الغارق في ثقافة الانهزام والتسليم بأننا لم نبلغ بعد سن الرشد لكي نتقن تشكيل السلطة لمصلحة البلد، وبات الشغل الشاغل لهؤلاء هو اختيار رئيس ترضى عنه واشنطن أو تروّج له باريس أو يتقاطع عليه الشرق والغرب وترضى عنه العرب.
يجري كل ذلك و”إسرائيل” تواصل عربدتها في الجنوب دون رادع ولا حسيب أو رقيب، بل إن البعض من المتحمّسين لانتخاب “رئيس سيادي” لا يتورّع عن إسقاط حالة العربدة هذه على الداخل السياسي وكأنه يستقوي بالتغطية الأمريكية على العدوان الصهيوني المتمادي ليرسم خط التغيير الشامل في لبنان الذي “سيطال الرئيس والحكومة والوزراء والمجلس النيابي”، وكأنه يقدّم صورة مصغّرة عن موقع لبنان الغد في خارطة الشرق الأوسط الجديد الذي أعلن بنيامين نتنياهو عزمه على إعادة تشكيله على أشلاء الضحايا وأطلال الدمار في فلسطين ولبنان وسوريا واليمن، بل إن البعض الآخر استعاد لغة التحريض والشرذمة ليحدّد أجندة عمل الرئيس المقبل ويطلق شروطاً ومواصفات لشكل الحكومة الجديدة واللون الطائفي للوزراء وحقائبهم، وإلا فقد “أعذر من أنذر”.
لطالما كان السؤال الذي يتبادر إلى ذهن اللبنانيين بعد كل محطة حرب أو استحقاق دستوري هو: أي لبنان نريد!؟ ويجد هذا السؤال نفسه بقوة اليوم مع توالي المواقف الانعزالية التي وصلت إلى حد استسهال شطب طائفة مؤسسة بأكملها من السجل السياسي، وهذا يؤكد بوضوح أن البعض من “شركاء الوطن” لا يزال يتنكّر لطبيعة التوازنات والتركيبة الداخلية للبلد التي تحول دون استفراد أي طرف بالقرار اللبناني، وتمنع مصادرة قرار اللبنانيين من قبل أي طرف خارجي إلا إذا كان في حدود النصيحة ودعم التوافقات الوطنية أو الحرص الذي لا يأخذ شكل الإملاء أو الفرض بالترغيب والترهيب.
ساعات متوتّرة وحساسة تفصل اللبنانيين عن رئيس جمهوريتهم الذي انتظروا انتخابه نحو عامين ونيّف، ولا يزال رئيس مجلس النواب نبيه بري يمسك بتلابيب الدستور التي تضمن الإتيان برئيس ميثاقي حائز على الشروط القانونية ووفق الأصول، ومن الطبيعي أن تشهد عملية الاقتراع معركة شدّ وجذب وفق اللعبة الديمقراطية إلا إذا لجأ البعض إلى التخريب المتعمّد خارج الأطر المحترمة، فحينذاك يتبيّن الخط الأبيض من الخيط الأسود من السيادة.. وبذلك قد تنتفي صعوبة التوضيح.
موقع سفير الشمال الإلكتروني