لم تتقبل إيران حتى الآن ما يصفه مسؤولوها بـ"الهزيمة" في سوريا. منذ سقوط نظام بشار الأسد، وتحميله مع جيشه مسؤولية عدم القتال وعدم الصمود، تتوالى التصريحات الإيرانية الهجومية تجاه التطورات السورية. لن يكون من السهل على إيران الاستسلام، لكنها أيضاً تعلم جيداً موقفها "الحرج" في ظل الهجمة الأميركية الإسرائيلية عليها. خصوصاً أن الشعار المرفوع إسرائيلياً هو تغيير وجه الشرق الأوسط وضرب نفوذ إيران في المنطقة. الضغط العسكري والسياسي والمالي والأمني الذي تتعرض له إيران، هو عبارة عن مشروع تراكمي عمره سنوات، انفجر منذ عملية طوفان الأقصى ولا يزال مستمراً، ويفترض أن يشتد أكثر مع الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، الذي يريد المجيء بإيران إلى طاولة التفاوض بشروطه. ولذلك، لا يمانع بممارسة أقصى أنواع الضغوط عليها.
فرصة لإسرائيل
إسرائيلياً، فإن بنيامين نتنياهو يعتبر نفسه أمام فرصة تاريخية وقد لا تتكرر لتوجيه ضربة عسكرية كبرى لإيران لتأخير وتعطيل نشاطها النووي. هناك مخاوف إيرانية وإقليمية، من إقدام إسرائيل على تنفيذ ضربات بشكل مفاجئ، وفي الوقت المستقطع ما بين نهاية ولاية جو بايدن ودخول ترامب إلى البيت الأبيض. هذا ما تسعى إيران إلى تجنبه بشكل كامل. وهناك خطوط مفتوحة بشكل مباشر وغير مباشر مع إدارة ترامب للتفاوض على كل ما يجنب طهران الضربة. في إيران هناك احتساب لكل الاحتمالات والخيارات، لكن جهات دولية وإقليمية عديدة تنشط على خط خفض التصعيد، وترك الأمور على سكة التفاوض والديبلوماسية، مع إعطاء إشارات وإيحاءات واضحة لطهران بأن هناك استراتيجية جديدة يفترض أن تظهرها، وأن تتخلى عن الكثير من المشاريع القديمة.
يرفع المسؤولون الإيرانيون الصوت عالياً، ضد مسار تقويض نفوذ طهران في المنطقة، انطلاقاً من الساحة السورية خصوصاً. علماً أن هناك مؤشرات واضحة حول الاستيعاب الإقليمي والدولي لما جرى في سوريا، وأن هناك فرصة ممنوحة للقيادة الجديدة. وعليه، لا يمكن لإيران أن تكون في واجهة أي أحداث مضادة. وعلى الرغم من المواقف ذات السقف المرتفع، فإن الجو الغالب في الداخل الإيراني يذهب باتجاه التفاوض والتفاهم مع الأميركيين، وخصوصاً في عهد ترامب. الانقسامات مستمرة بين مراكز القوى المختلفة داخل إيران، لكن الميل هو لعدم الدخول في مواجهة لا مع العرب ولا مع الغرب وخصوصاً في هذه المرحلة.
رؤية إيرانية
لذا، هناك في إيران من يفكر بطريقة مختلفة وإن كانت تتقاطع مع مبدأ "تقويض الانفلاش" على مستوى المنطقة، والتركيز على التحاور مع ترامب، على أساس اتفاق جديد في الملف النووي، عنوانه خفض مستوى التخصيب، مع الاستعداد لفتح الباب أمام تعاون كامل حول تفتيش المنشآت، بالإضافة إلى القبول بالتفتيش المباغت وعبر زيارات غير معلنة مسبقاً. أما بملف الصواريخ البالستية، فهناك رفض إيراني للنقاش لتفكيك هذه البنية الصاروخية، مع ميل للتفكير بالعودة إلى ما كان قد طرح سابقاً وهو في وقف مسار تطوير هذه الصواريخ.
الأهم بالنسبة إلى الإقليم، هو التقدم برؤية إيرانية مختلفة لما كانت عليه رؤيتها في العقود الماضية، على قاعدة التعاون مع دول المنطقة المختلفة، ووقف مشاريع تصدير الثورة أو خلق الكيانات الموازية داخل كل دولة.المسعى العراقي هذا مسعى تقوده جهات دولية وإقليمية عديدة، على رأسها العراق، الذي يسعى إلى تحييد نفسه عن مسارات الصراع. وهو عمل منذ الحرب الإسرائيلية على المنطقة على تحييد نفسه وضبط ساحته عسكرياً، كما وضع رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني مساراً واضحاً لضبط السلاح المتفلت، وقد حظي بدعم مرجعية النجف ومقتدى الصدر حول ضرورة حصر السلاح بيد الدولة.
يسعى السوداني مع إيران في سبيل ضبط وضع الميليشيات، وإيجاد مخرج لوضع الحشد الشعبي تحت سلطة الدولة، والتفاوض مع الإيرانيين حول بعض الفصائل التي لا تزال ترفض الانخراط في هذا المشروع، وتريد الحفاظ على جسمها العسكري واستقلاليته، كحزب الله العراقي وفصائل أخرى. وهذه كلها ملفات يبحثها السوداني خلال زيارته إلى إيران، بالإضافة إلى البحث في ملفات كثيرة، لتجديد تغذية إيران للعراق بالغاز والكهرباء، بالإضافة إلى السعي لفتح قنوات تواصل بين إيران وسوريا، وتخفيف الحدّة الإيرانية تجاه سوريا مع التوسط لفتح العلاقات بين الطرفين، خصوصاً أن العراق معني جداً بتهدئة الأوضاع، لأن انفجارها سينعكس بشكل مباشر على الساحة العراقية. بعدها يتوجه السوداني إلى عواصم عربية ويعمل على جدولة زيارات إلى عواصم غربية، بينها لندن، في إطار تعزيز دوره التفاوضي في سبيل تحييد العراق عن أي مواجهة، ومحاولة لعب دور تقريبي بين إيران والغرب.
أربعة ملفات
ما يسعى إليه العراق مع طهران، تريد إيران تلقفه على مستوى المنطقة، إذ لا بد له أن ينسحب على 4 ملفات أساسية. أولاً، سوريا والتي يعتبر الإيرانيون أنها لم تستقر حتى الآن، وقد تشهد الكثير من الصراعات أو الصدامات بين مكونات مختلفة وفصائل متعددة. وهذه قد تجدها إيران فرصة لإعادة تثبيت حضورها هناك، وإن كانت فيه غير متصدرة للمشهد. ثانياً، لبنان، والذي تراهن قوى دولية وإقليمية عديدة على إيران ودورها في إقناع حزب الله بتطبيق اتفاق وقف إطلاق النار، والتخلي عن السلاح، والانتقال إلى مرحلة جديدة من الممارسة السياسية. وذلك، من خلال إنتاج تسوية سياسية تحظى بقبول المجتمع الدولي. ثالثاً، اليمن في إطار السعي الدولي والخليجي لتوفير سلامة الملاحة في البحر الأحمر. رابعاً والأهم، فلسطين، إذ هناك تشديد أميركي إسرائيلي مع ضغوط مكثفة على إيران لوقف مسار دعم فصائل المقاومة الفلسطينية واستمرار المواجهة العسكرية، مع تصريحات علنية واضحة لمسؤولين أميركيين وإسرائيليين طالبوا إيران بعدم العودة إلى استخدام لغة "زوال إسرائيل". قد تنحني إيران للريح في مرحلة ما، لكن لن يكون من السهل عليها التسليم بكل ما هو مطلوب، وقد تنتظر فرصة للانقضاض والانقلاب. في المقابل، قد لا تبدو دول كثيرة مقتنعة بقدرتها على إلزام طهران بهذه الشروط. وهو ما سيبقي المعركة مفتوحة وإن كانت دون سقف المواجهة العسكرية، وتركزت على الشؤون الداخلية في السياسة وفي طبيعة النظام وتركيبته.