ظَنَّ الجنوبيون العائدون إلى قراهم بعد اتفاق وقف إطلاق النار، أنّهم تخلّصوا من جشع الذين أجَّروا منازلهم خلال الحرب، في المناطق الآمنة، بنحو 3 أضعاف قيمتها التأجيرية المعتمدة في الأحوال العادية. لكنّهم اصطدموا بجشعٍ وجدوه في قراهم، تولّاه بعض أصحاب المنازل وتجّار العقارات الذين يملكون مشاريع سكنية. فالإيجارات ارتفعت بنسبٍ متفاوتة وزادت معاناة مَن دُمِّرَت بيوتهم وخسروا ممتلكاتهم وباتوا مجبرين على قبول ظلم ذوي القربى. على أنّ ارتفاع أسعار إيجارات الشقق السكنية لم ينسحب على أسعار شراء الأراضي والشقق.اختلاف مستوى الإيجاراتارتفعت أسعار الإيجارات في القرى الجنوبية غير المحاذية للحدود مع فلسطين. وفي المقابل، أدّت عودة الجنوبيين إلى هذه القرى، إلى انخفاض الإيجارات في المناطق التي نزحوا إليها بين نهاية أيلول ونهاية تشرين الثاني الماضيين. ويدلّ التباين في أسعار الإيجارات على حركة العرض والطلب التي انعكسَ اتجاهها بعد وقف إطلاق النار، إذ عادت الإيجارات في المناطق التي استقبلَت النازحين، إلى ما كانت عليه قبل تصاعد وتيرة الحرب في 23 أيلول الماضي.
في قرى منطقتَيّ صور والنبطية، تضاعفَت أسعار الشقق المؤجَّرة. ومع مراعاة اختلاف معدّلات الأسعار بين قرية وأخرى، يمكن استناداً إلى آراء السكّان والوسطاء العقاريين، ملاحظة تأجير الشقق المفروشة بما يتراوح بين 600 إلى 700 دولار شهرياً وبين 300 إلى 400 دولار للشقق غير المفروشة، ما يشكِّل زيادة بين 100 إلى 200 دولار. واللافت للنظر، أن معدّلات الإيجارات ارتفعت أكثر في المناطق القريبة من القرى الحدودية، فضلاً عن ظهور بعض الممارسات التي تدل على حجم استغلال زيادة الطلب على الشقق. ففي بلدة تبنين، يؤكّد أحد النازحين أنه اتفق مع صاحب شقّة على استئجارها بـ250 دولاراً، وقبل الانتقال إليها، فوجىء في اليوم التالي أن صاحبها أجَّرها لشخص آخر بـ400 دولار.وعلى المقلب الآخر، انخفضت أسعار الإيجارات في المناطق التي استضافت النازحين. فعلى سبيل المثال لا الحصر، انخفض إيجار بعض المنازل في بلدة "القْرَيّة" في شرق صيدا، من نحو 600 و800 دولار إلى ما بين 250 و400 دولار. وفي مناطق الشمال، تراجعت أسعار الشقق إلى نصف ما كانت عليه خلال فترة النزوح، ما خلا الشقق التي فَضَّلَ مستأجروها الاحتفاظ بها لما بعد انقضاء مهلة الـ60 يوماً المحدّدة لانسحاب جيش العدوّ الإسرائيلي من الجنوب، خوفاً من تجدد الحرب وعدم إيجاد منزل مناسب. ولم يخلُ الأمر من بعض التفاوض مع أصحاب الشقق لخفض الإيجار، لكن المساعي لم تفلح دائماً.عزّة النَّفسالمقاربة الاقتصادية لتحوُّلات إيجارات الشقق في الجنوب يوازيها جانب اجتماعي - نفسي يظهر بوضوح على ألسنة الباحثين عن منازل، وما يتمكَّن اللسان من كتمه، تظهره ملامح الوجه. فما اعترضَ عليه الجنوبيون من استغلال في رحلة نزوحهم، وجدوه في قراهم. وما يصعِّب عليهم هذا الواقع، هو عزّة النَّفس التي تمنعهم من استئجار منازل يَرَونَ أنّ مستواها أقلّ بكثير من منازلهم المدمَّرة، فضلاً عن أنّ عدم وجود منازل كافية تناسب عدد أفراد الأسر. فمن كان يعيش بمنزل خاص يلبّي احتياجات أفراد أسرته، لم يتقبَّل بسهولة العيش في منزل أصغر وبلا أرضٍ أو حديقة خاصة. وإذا كان للضرورة قرارها الفصل، فإنها لا تستطيع محوَ الغَصّة.عائلات مشتَّتةعدم انتظام حياة مَن دُمِّرَت بيوتهم، لم تقتصر فقط على تأثيرات نسبة الايجارات، فصغر المنازل المُستأجَرة وعدم تناسبها مع الحاجات المعتادة للأهالي، وعدم القدرة المادية على استئجار منازل كبيرة أو أكثر من منزلٍ، جَعَلَ بعض العائلات تتشتَّت. فإحدى العائلات اضطُرَّت لتوزيع أفرادها على أكثر من منزل. ولضيق الأماكن وكثرة الاحتياجات اليومية، وجدت إحدى السيّدات نفسها مضطرّة لقضاء وقت أطوَل في محلِّها لبيع الألبسة، واقتصار ذهابها إلى منازل أقربائها، على النوم فقط، مع مراعاة تنويع أماكن النوم كي لا يشعر أحدٌ بالإنزعاج. وعدم الاستقرار بالنوم، أثَّرَ على تفاصيل يومية صغيرة قد لا يلحظها البعض، ومنها اضطرار تلك السيّدة إلى غسل ملابسها عند أقربائها وفق نظام المداورة.
وتتراكم التأثيرات السلبية على حياة العائدين الذين باتوا مهجَّرين في قراهم، فبعضهم فؤجىء بطلب أصحاب الشقق، دفع أجرة بين 3 إلى 6 أشهر سلفاً، وهو خيار اعتبروه جشعاً في المناطق التي نزحوا إليها خلال الحرب، ولم يكن بالحسبان أنّهم سيواجهونه في قراهم.استقرار أسعار العقاراتوسط تفاوت أسعار الإيجارات وانعكاساتها على المستأجرين، يشهد سوق بيع العقارات في الجنوب استقراراً في الأسعار، إن على مستوى الأراضي أو الشقق، فحركة البيع والشراء جامدة نسبياً، ويعود ذلك بشكل أساسي إلى حالة الترقّب التي يعيشها الجنوبيون لفترة ما بعد مهلة الـ60 يوماً، بالإضافة إلى الاستنزاف المادّي الذي عاشوه خلال فترة تهجيرهم. أمّا المغتربون، فيفضّلون دعم عائلاتهم لتعزيز الاستهلاك والتعافي من تأثيرات التهجير.
يأمل الجنوبيون طي صفحة الحرب بشكل نهائي وأن يكون التعافي سريعاً عبر إعادة الإعمار بما يتناسب مع الحجم الفعلي للخسائر. وإلى حينه، ليس هناك مَن يضبط بورصة أسعار الإيجارات، حتّى أن الانسحاب الاسرائيلي الكامل من المناطق الحدودية، قد لا يخفِّض الأسعار لأن عودة الأهالي ليس يسيراً، بسبب التدمير الهائل للمنازل في تلك القرى، ما سيضطرّهم للمكوث حيث هم الآن ريثما تتّضح معالم إعادة الإعمار.