تعود مدينة دمشق، المحررة من نظام "الأبد"، لتظهر بكامل تناقضاتها السوسولوجية، وبألقها الضارب في الماضي والحاضر والتاريخ، لا سيما كمدينة زاخرة بمقامات وأضرحة وقبور متنوعة ومتناقضة ومتشابكة ومحاطة بالأساطير والمعاني والأوهام والحكايات والتفسيرات، تبعاً لتراكم التواريخ والحضارات وتبدلاتها وتشعباتها وتحولاتها(*).وتضم الجبّانات والنواحي الدمشقية مقامات وقبور وأضرحة مقبّبة ومهندسة للعديد من الشخصيات الحقيقية المؤثرة في وجدان الجماعات والمِلل، والشخصيات الأسطورية والدينية، من المذاهب والطوائف كافة، سواء السنّية أو الشيعية أو الصوفية، إضافة إلى الكرد والعروبيين والمسيحيين والأدباء والشعراء. وبحسب جيمس فريزر في كتابه "الطوطمية والزواج"، فإن الطوطم هو "مجموعة من الأشياء التي يحترمها البدائيون، ويعتقدون بوجود علاقة خاصة تربطهم بها". وفي دمشق، من خلال العلاقة بالأضرحة، بُنيت سياسات وتوجهات، وزعم البعض أن المقامات كانت حجة للمشاركة في حروب طاحنة وفتاكة، تسببت في مقتل الآلاف وتهجير الملايين. وتؤول المقامات والأضرحة إلى موائل سياحية ومقصد لملايين الزوار من العالم، وكل شخص يعتقد أن له علاقة خاصة بضريحه أو مقامه، وعلاقته به تتجلى بالسكينة أو البكاء وربما أمور أخرى.
(بوتين عند قبر صلاح الدين)ومن الأضرحة الدمشقية البارزة، ضريح صلاح الدين الأيوبي الذي يتسم بأبعاد سياسية. فقاهر الصليبيين، الذي رحل في 4 آذار 1193، ودفن في بداية الأمر في قلعة دمشق، نقل بعد ذلك إلى مدفنه الحالي بدمشق أيضاً، في المكان المعروف بـ"ضريح صلاح الدين"، بجانب المدرسة العزيزية بجوار الجدار اليسار من الجامع الأموى في حي الكلاّسة.والبعد السياسي للضريح هو الروايات المنسوجة حوله، ومنها الرواية التي يتبناها بعض أنصار العروبة والتي تقول إنه، بعد هزيمة الصليبيين ووفاة صلاح الدين بأكثر من 700 عام، والانتداب البريطاني في فلسطين، ودخول القوات الفرنسية إلى دمشق، توجه قائد القوات الفرنسية في الحرب العالمية الأولى، الجنرال غورو، إلى ضريح صلاح الدين، وذلك حسبما ذكر اللواء راشد الكيلاني فى مذكراته، فقال: "يا صلاح الدين أنت قلت لنا إبان حروبك الصليبية: إنكم خرجتم من الشرق ولن تعودوا إليه، وها نحن عدنا فانهض لترانا في سورية".لكن هذه الرواية بقيت بين الحقيقة والأسطورة و"لطالما ألهمت الاتجاهات الجديدة الوطنية السورية والقومية العربية والإسلامية العابرة للحدود في صراعها مع العدو الموجود أو المفترض"، بحسب الباحث السوري - الكوسوفي محمد م.الارناؤوط الذي يشير إلى أن المؤرّخ الأردني، علي محافظة، الذي تخرّج في "جامعة السوربون" ويعرف جيّداً الوثائق والمصادر الفرنسية، قال في محاضرة له إنه بحث خلال دراسته في فرنسا وبعد عمله الطويل أستاذاً للتاريخ، عن هذه الجملة المنسوبة إلى الجنرال غورو فلم يجد سنداً لها. لكن هذا "لم يغيّر شيئاً من واقع الحالة، وبالتحديد من سحرية هذه الجملة وتطوُّرات استخدامها حتى الآن".ويرى المؤرخ البريطاني جيمس بار، أن العبارة المنسوبة إلى الجنرال غورو اكتسبت شهرة بعدما استخدمها جمال عبد الناصر في خطبة بتاريخ مارس/آذار1958. وقد أوحى فيما يسوق رأيه هذا، أن عبد الناصر سمع بالعبارة بعد زيارته الأولى لسوريا، ورؤيته لضريح صلاح الدين، لأنها - كما قال - كانت تكرر في دمشق كثيراً. وبحسب الصحافي علي العميم، أن سماع عبد الناصر لتلك العبارة هو الذي شجعه على تقمص شخصية صلاح الدين، وتقمص دوره التاريخي في الحروب الصليبية، لكن بنكهة قومية عربية علمانية. ففيلم "الناصر صلاح الدين" للمخرج يوسف شاهين، الذي أنتج العام 1963، تضمن إسقاطاً سياسياً وأيديولوجياً مباشراً بأن عبد الناصر هو صلاح الدين المعاصر الذي سيحرر القدس من الاحتلال الإسرائيلي، وأن قوميته السياسية الوحدوية في الماضي كان سلفه فيها صلاح الدين. وثمة رواية أخرى لعبارة غورو هذه، وهي ما خلص جيمس بار إليه في كتابه "خط في الرمال: بريطانيا وفرنسا والصراع الذي شكل الشرق الأوسط"، في مناقشة تقريرَي الصحافية الفرنسية مريام هاري التي كتبت عن معركة ميسلون في دمشق ووجود غورو فيها. فقال إن قائلها هو الجنرال ماريانو غوابيه، وليس الجنرال غورو. فغوابيه، الذي زعم أنه قاد الحملة العسكرية على دمشق تنفيذاً لقرار عصبة الأمم، بغية تمدين سوريا والسوريين، قال في مذكراته: "أنا في دمشق! إن هذا الاسم كان يمثل لي شيئاً خرافياً عندما كنت أقرأه، في سجلات عائلتي، وأنا بعد في سن الطفولة. إن جان مونغوليه، الجد البعيد لجدتي من جهة أبي لويز، كان وقع في الأسر خلال الحروب الصليبية الثانية، سنة 1147، ونقل إلى مدينة دمشق".كما أن شخصاً فرنسياً أورد العبارة ذاتها، وكان قد خدم في جيش غورو العام 1920، لكنه لم ينسبها إلى غورو. هذا الشخص هو لوي غاروس الذي كتب مقالاً في صحيفة "لوموند" العام 1970، بمناسبة مرور خمسين عاماً على استيلاء فرنسا على سوريا.القبر - الضريح
ويقع قبر صلاح الدين في غرفة ذات أربعة جدران مصممة على الطريقة الدمشقية، بالحجر الأبلق، وتحتوي هذه الجدران على زخارف إسلامية، ونشاهد داخل الحجرة ضريحاً مصنوعاً من خشب الجوز محفورة فيه كتابات وزخارف ذات وأنماط هندسية، وبعض زخارف الورد والنباتات، وهو الضريح الذي يضم رفات صلاح الدين.
(الإكليل المنهوب)وبحسب "الموسوعة الدمشقية"، ففي العام 1898، وضع عند القبر إكليل ذهبي قدّمه الامبراطور غليوم الثاني أثناء زيارته دمشق وفي عهد السلطان عبد الحميد الثاني، اعترافاً بعظمة شخصية صلاح الدين، وقدّم غليوم ضريحاً من المرمر، ما زال قائماً حتى اليوم بقرب الضريح الأصلي وخطب قائلاً:" أراني مبتهجاً من صميم فؤادي عندما أتذكر أنني في مدينة عاش فيها من كان أعظم أبطال الملوك الغابرة بأسرها، الشهم الذي تعالى قدره بتعليم أعدائه كيف تكون الشهامة، ألا وهو المجاهد الباسل السلطان الكبير صلاح الدين الأيوبي".وبقي الإكليل موجوداً إلى جانب الضريح من العام 1898 ولغاية العام 1918، قبل أن يستحوذ عليه الكولونيل توماس لورانس (لورانس العرب) بعد دخوله دمشق مع قوات الثورة العربية الكبرى، ونقل الإكليل إلى لندن. ويرى مؤرخون أن هذه الخطوة من جانب لورانس، ربما كانت إيماءة ضد الامبراطور الألماني، وكذلك تعبيراً عن إعجاب لورانس بالخصم اللدود لصلاح الدين، وهو الملك الانكليزي ريتشارد قلب الأسد. وفي 11 تشرين الثاني 1918، سجل الإكليل رسمياً ضمن محفوظات المتحف الحربي البريطاني. وأشار لورانس في شهادة تبرعه به إلى أن مبرر التبرع هو "أني انتزعت الإكليل لأن صلاح الدين لم يعد بحاجة إليه".
(غيفارا عند الضريح)ومن أهم الشخصيات التي زارت الضريح، الملك حسن بن طلال في نيسان 1956، والثائر الأممي ارنستو تشي غيفارا العام 1959، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في كانون الثاني 2020. وحملت زيارة بوتين أبعاداً سياسية في تعليقات المحللين، خصوصاً أنّ الطائرات الروسية شاركت بقوّة في قمع الثورة السورية.(*) الجزء الأول من سردية، ترصد أحوال المقامات والأضرحة والقبور في العاصمة السورية دمشق، وما لها من انعكسات اجتماعية وسياسية.