هي ليست انتخابات لبنانية فقط. لا ينحصر الاستحقاق بالداخل. لكأن "مجلس الأمن" هو الذي ينتخب الرئيس. مجلس الأمن ذاك الذي جرى استبداله، بدول تمثله في تكريس اتفاق وقف إطلاق النار في جنوب لبنان. وهو الذي استبدل القرار "1701" الصادر عنه في آب 2006، باتفاقية "معدلة ومنقحة" سمّيت اتفاقية الآليات التطبيقية لذلك القرار.بوابة مرحلة جديدةليست الرئاسة حالياً، مرتبطة بالرئيس، لا بشخصه، ولا باسمه، ولا ببزته ونوعها إذا ما كانت عسكرية، أمنية أم مدنية. بل هي رئاسة تتصل بالقطع مع مرحلة ماضية، والولوج إلى مرحلة جديدة. مرحلة لا تقف عند حدود لبنان بل تتصل بشمولية منطقة الشرق الأوسط، بتعقيداتها وتداخلاتها، فلا ينفصل سيجري في ساحة النجمة، عمّا يجري على الحدود الشرقية أو الجنوبية، وكل ذلك تحت سقف إعادة رسم ملامح جديدة لمنطقة المشرق العربي أو الشرق الأوسط.
يشبه الدفع الدولي القائم في سبيل انتخاب رئيس للجمهورية مع تحديد ملامح العهد ومهماته وخططه وبرامجه، بما كان يصدر سابقاً من قرارات عن مجلس الأمن الدولي، سواء القرار 425 حول تحرير الأراضي المحتلة، أو القرار 1559 حول السلاح وحصره بيد الدولة، أو القرار 1701 حول وقف العمليات العسكرية ومنع توريد الأسلحة، أو القرار 1680 الذي يفترض ترسيماً أو تحديداً أو تثبيتاً للحدود الشمالية والشرقية، بموازاة تثبيت ترسيم الحدود الجنوبية والتي ستبقى مشكلة عالقة وخاضعة لأطماع إسرائيلية كثيرة. يُستعاض عن القرارات الدولية هذه المرّة بموازين القوى الإقليمية والدولية، والتي كرستها حرب إسرائيلية شاملة على المنطقة، يُراد لتفاديها إقناع الجميع بضرورة تغيير كل المقاربات السياسية وكل السياسات التي تنتهجها دول المنطقة أو المجموعات السياسية فيها.إنها الانتخابات التي يُراد لها أن تفتح الباب أمام مرحلة جديدة على مستوى المنطقة. وهو مسعى لا يزال يتعرّض للمعارضة والممانعة من قبل جهات عديدة. الترغيب والترهيبعلى هذا المسرح، تشتد المكاسرة، والتي دخلت إليها الولايات المتحدة الأميركية كعنصر أساسي ومقرر، وأحد أكثر الأطراف المعنية في ممارسة الضغوط الأكبر. ذلك ما تجلى في زيارة المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين، الذي تحدث بوضوح في ملف وقف إطلاق النار وتثبيته، التزام حزب الله بتطبيق الاتفاق وسحب السلاح من جنوب نهر الليطاني، وبإنجاز الانتخابات الرئاسية بمعايير دولية، وإن لم تكن ظروف التوافق الداخلي متوفرة. فما قاله هوكشتاين كان واضحاً بأن جوزيف عون هو الخيار المفضل لدى الدول الخمس. استبق المبعوث الأميركي زيارته إلى لبنان بزيارة إلى السعودية وإلى قطر للوقوف على كلمة واحدة وموقف واحد، ولعدم "تنويع" المرشحين وحصر السباق بمرشح واحد، والسعي إلى توفير الأصوات اللازمة له. بقيت الأسئلة متركّزة على موقف الثنائي الشيعي والتيار الوطني الحرّ، فكان التخيير ما بين تثبيت وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب والاعتداءات الإسرائيلية ووضع خريطة إعادة الإعمار مقابل الموافقة على انتخاب الرئيس "المرغوب"، بمقومات الترغيب أو الترهيب ان اقتضت الحاجة.ترشيح باسيل لجعجعجاءت "الكدّة" الديبلوماسية، بعد "كدّة" داخلية ضاغطة على حزب الله من التضييق في المطار، إلى التحدّي السياسي. وجد الحزب نفسه مضطراً لتفعيل محركاته، اتجاهاً إلى عين التينة، أو من قلب الضاحية الجنوبية. رفع مسؤول وحدة الارتباط والتنسيق وفيق صفا "الفيتو" عن قائد الجيش ووضعه في وجه سمير جعجع. في مشهد سوريالي، كاد لهذا الموقف أن يدفع الكثير من معارضي حزب الله وعلى رأسهم القوات إلى ترشيح جعجع بنفسه، فحينها تتوفر ظروف انتخاب جوزيف عون لدى الآخرين. تعاطى كثر مع موقف صفا بأنه مباركة مسبقة لقائد الجيش، لا سيما بالنظر إلى الضغط الدولي الواضح والذي أخذ بعداً سعودياً، أميركياً وفرنسياً. كثر سارعوا إلى المباركة، وآخرون يستذكرون لحظة المباركة في العام 2015 لسليمان فرنجية بعيد ترشيحه من قبل تيار المستقبل، في حينها تلقى فرنجية اتصال التهنئة من الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، وكانت هناك مباركة سعودية وأميركية. قبل أن تقلب الديناميكية الداخلية المشهد بتبني سمير جعجع لخيار ميشال عون. اليوم ثمة ديناميكية يمكنها أن تقلب المشهد في تبني جبران باسيل لترشيح سمير جعجع لقطع الطريق على دعم القوات لقائد الجيش.
في خضم التطورات، حطّ جبران باسيل في عين التينة للقاء رئيس مجلس النواب والحث في خيار بديل يمكن التوافق عليه لمواجهة جوزيف عون، اقترح باسيل العودة إلى خيار جهاد أزعور باعتباره معروفاً لدى بري والمعارضة تقاطعت عليه سابقاً، ولا يمكن لأحد أن يسحب يده منه. فضّل بري الانتظار لمعرفة حقيقة وجهة الرياح الأميركية وحجم الضغط والمستوى الذي سيبلغه.استحقاق استراتيجي!إنها انتخابات إقليمية دولية، تنعكس على الساحة اللبنانية. لا يمكن فيها إغفال دور إيران وحضورها وتأثيرها، وهي التي تعتبر نفسها تخوض مواجهة في كل المنطقة. لدى نقاشات الموفدين الدوليين في لبنان حول كيفية توفير ظروف انتخاب جوزيف عون بلا الثنائي الشيعي، كانت تأتي إشارات بأن المسألة يمكن حلّها بالتعاون مع إيران. مقابل ضمانات أمنية وسياسية. ضمانات أمنية تجلّت في حرية حركة مسؤولي حزب الله الذين كثفوا من إطلالاتهم. وضمانات سياسية تتصل بحفظ الدور والموقع والتأثير في المعادلة. وضمانات عسكرية تتصل بإيران التي تتعرض لضغوط كثيفة. في هذا السياق لا ينفصل دخول الرئيس الفرنسي على خطّ القول إن البرنامج النووي الإيراني قد شارف على الوصول إلى نقطة اللاعودة، وكأنه يتضمن تهديداً ضمنياً لطهران متضافراً مع الضغوط الأميركية والإسرائيلية لدفع إيران إلى تليين مواقفها نووياً، وإقليمياً ولا سيما على الساحة اللبنانية. وليس بعيداً يأتي المبعوث الفرنسي جان إيف لودريان إلى لبنان لمواكبة جلسة الخميس.
إنه الدفع الديبلوماسي المدعوم بدفع أو ضغط عسكري. إذ، طرفان في مجلس الأمن الدولي، عملا على إنجاز ترتيبات أمنية في جنوب لبنان لوقف الحرب الإسرائيلية، يريدان تعزيز ما حققاه سياسياً. من خلال سحب المسار الأمني على المسار السياسي. بذلك فقد أصبح الاستحقاق الرئاسي أمنياً واستراتيجياً، وليس فقط استحقاقاً داخلياً بمعانيه الإصلاحية، إدارياً ومالياً، التي يمكنها أن تكون مرعية بإرادة وإشراف دوليين. وبذلك لم يعد لبنان بلداً يعاني من فراغ وتجدر تعبئته، بل هناك وجهة سياسة جديدة على مستوى المنطقة يجب فرضها وعلى هذا اللبنان أن يتماهى معها. المسألة أبعد من رئاسة الجمهورية، وتتصل بدور هذه الجمهورية في المرحلة المقبلة، وكيف تريدها القوى الدولية والإقليمية، تجاه إيران، والدول العربية، بالإضافة إلى تثبيت وقائع جديدة خصوصاً بموضوع السلاح وقطع طريق إمداده من إيران إلى لبنان، وتجميد مفاعيل عمل السلاح في جنوب نهر الليطاني وفي شماله، وبما ينجم عن ذلك من تحولات سياسية.