إلى دانيال.
"إنها الحرية، الحرية التي أحلم بها،
وإمكانية التقرير، والخيار، والعمل،
والامتناع عن العمل، والتوقف عن العمل.
الحرية طوال سنوات، وإلى أبد الآبدين،
هي الجري في سهل أبيض شاسع في الأصيل"
(كارلوس ليسكانو)
البحث عن أثرٍ للأطفال في مؤلفات أدب السجون، الحقيقي منه والخيالي، هو في المقام الأول كالبحث عن الأطفال في السجون المحررة. لك أن تتخيل أن توارد الأخبار من السجون التي خلعت أبوابها في سوريا، ورؤية الأطفال فيها، لم يكن بحاجة إلى تقديم إخباري، بل على العكس تماما، كان أقرب إلى أن يكون خبراً يُلتزم السكوت إزاءه، أو إن شئت: اللعثمة بخبره، وما أحاط به من ظروف، من دون محاولة تفسير مركّزةٍ له.
يتحتم عليك في هذه البقعة الجغرافية، أن تضطر إلى مجابهة الخيال بالواقع، لا العكس. إذ كيف تتفهم أن الطفل الذي يريد العودة إلى السجن بحسبان أنه المنزل الذي يعرفه، هو ابنُ السجّان والضحيّة معاً؟ تختصر هذه الصورة عليك مشهد الطفولة في هذه الأرجاء؛ الطفولة ابنة السجان والمسجون، فلا الخارجُ فسحةٌ آمنة الجانب، ولا السجن هو البيت كما تُعرَفُ البيوت، وبقول آخر: غربة بيتيّة لا تستطيع توفيرها - في الحقيقة - جدران أربعة وسقف. وعلى كل حال، نحاول في هذا المقال، قراءة ما لهذه الظاهرة على ما فيها من ظلمة، في محاولة للتفهم، أو احتفالا كئيباً بحرية مبتغاة، ودعوة للحكي والكتابة.
على إثر ما شاهدناه في الفترة الخالية من تحرير معتقلين وفتح سجون بما فيها من قصص ورمزيات، راجت مقابلة مصورة أجريت مع المفكر السوري ميشال كيلو يحدّث فيها مُحاوِرته عن التحدي المبطن الذي واجهه به السجّان يوماً، بأن يروي قصة لطفل ثاو مع أمه في إحدى الزنازين؛ يدخل كيلو الغرفة، ويحكي للطفل عن عصفور، فيجيبه الصبي: ما العصفور؟ ويحكي له أن العصفور على الشجرة، فيجيب ما الشجرة؟ ثم يقوم ميشال كيلو منفعلاً طالباً الإعفاء من هذه المهمة الفاشلة.
ولعلنا نجد في النشاط الثقافي للإنسان، تجربة أدبية تظهر هذا النمط من الممارسات التي تُظهر الحيوية والشفقة في شكلها، وتستبطن الرعب والقمع، وأشكالاً مختلفة من بثّ الخوف، تفضي في النهاية إلى وعي السجّان أنه يجب عليه أن يقمع لا الحاضر فحسب، بل يحاول أن يطأ بقدمه مستقبل الضحايا، حيث لا سجن ولا سجان، بل الذاكرة فقط.
اعتاد "غيدو" (الشخصية الرئيسية لعب دورها روبيرتو بينيني) في فيلم Life Is Beautiful – 1997 أن يفسّر أحداث الحياة لسائر الشخصيات، من منظورهم الخاص دفعاً للواقع المرير أو ابتغاءً لواقع أجدى. وحين تبدأ المعتقلات النازية بأداء عملها تجاه يهود إيطاليا، يُعتقلُ غيدو وابنه وامرأته. يرسم الفيلم كيفية إعادة غيدو تشكيل الأحداث لكي تتوافق مع ذهنية ابنه الطفل في المعتقل؛ فالاعتقال بكل تفاصيله يصوره غيدو لابنه على أنه لعبة بإحراز النقاط، فيها تحديات: الاختباء، الخداع، الصمت. فلكلِ هولٍ لعبةٌ وتفسير مختلف عما يبدو عليه الأمر. فتراه أثناء نقل المعتقلين بالقطارات يقول أمام طفله "انتظروا لدينا حجز"، وحين يصلون بهم إلى المهجع يقول "يا له من مكان رائع، لنتحرك قبل أن يسرقوا أماكننا" أما الأمن والحراس والسجانون، فهم الذين يصيحون في وجهك لكي تخسر التحدي، إذ أن المنافسة على أشدها للفوز بدبابة حقيقية ينالها الفائز بأعلى نقاط. وحين يسمع الصبي عن قصص التعذيب كصنع الصابون من شحوم ولحوم البشر، يجيبه غيدو بإنكار "تخيل الأمر، صباح الغد سأغسل يدي بـ"بارتولميو" (إحدى شخصيات الفيلم)" فيضحك الصبي وينسى الأمر.
قد يكون هذا المثل هو ثاني أفضل حالة للسجين، بعد النجاة والخروج من السجن. لكنه محض خيال وتقديم لرسالة فنية، فهل يقارن هذا بحادثة الطفل الذي يحكي عنه ميشال كيلو؟ أو غيره ممن لم تنقل قصصهم؟ حتماً لا.
ولو أننا أردنا أنسنة القصة، فمن منظور النقد الأدبي، قد يعتبر هذا من أدب الأطفال، لكن هذا التوجه في صوغ الموضوعات كأفانين العذاب والظلم، موجهاً للأطفال، يضادّه اتجاه آخر، هو السائد في واقعنا الحقيقي، وهو تخصيص عذاب خاصّ للطفل كما للراشدين عذابات خاصة. أمر لا تُستَخلَص منه اللغة الفنية التي تعتلج في صدور بعض المعتقلين، بل الأحرى أن يخضعوا لاستشفاء طويل الأمد. ومن المتعارف عليه بين النقاد، الأدبُ الذي يكتبه الأطفال بأنفسهم، المسمى Juvenilia، لكن لا يخطر لأحد أن يتحدث طفلٌ شبَّ في العتمة والرطوبة والعذاب بلغته. لماذا نتحدث إذن؟ لعل شيئاً من الاستعلاء قد ينسلّ في تضاعيف الأطاريح، إذ بنظرة واحدة لطفل سبق وعاش تجربة السجن، تستطيع أن تلمح الخواء والخوف ماثلا في عينيه، حتى أن أحدهم كان يقول –وهو بعدُ شابّ بالغ – "أنا هلأ ما بعرف روح وإجي بصراحة". بتتبع أدقّ، فإن الصمود أمام التنكيل والإهانة، بعد تجاوز الدرجة القصوى من الخوف، تلك التي لا يكمُن بعدها غير الموت، هذا الصمود هو غريزة تتعلق بكرامة يشعر بها الإنسان مندفقة من نفسه، طلقاً دون استدعاء، وهي نفسها الصوت الذي يعود مجدداً ليتحدث ويعبر. ولنضرب لذلك مثلاً، بفقرة لا تُجتزأ، لمعتقل سياسي قديم، الروائي الأوروغوياني "كارلوس ليسكانو"، في كتابه المندرج ضمن أدب السجون "عربة المجانين"، يقول : "مرت سبع وعشرون سنة قبل أن أجد صوتاً يمكنه أن يتكلم عن الزمن القديم. وسيكتشف هذا الصوت يوماً أن بين الفرد المعزول والكلمة علاقة قيمة جداً، وذات أهمية أدبية وجديرة بأن تروى. وكتبتُ لغةَ الوحدة وظننت أنها كل ما يمكنني أن أكتبه. ولكن في يوم آخر وبعد سنة، شق الصوت لنفسه طريقاً، وفرض نفسه علي، وأراد أن يقول ويحكي، بقيمة أو بلا قيمة، بأهمية أدبية أو بدونها، وصار من المستحيل إيقاف هذا الصوت." (عربة المجانين – ترجمة عدنان محمد. ص172).
كان لهذه الممارسات شكلها الخاص في العصور السابقة، في أوروبا مثلا، مع فارق وحيد أن الحالية يجري تصويرها ونشرها على وسائل التواصل، وأنها في "عصر حديث". فهاك ميشال فوكو في كتابه "المراقبة والمعاقبة" يتحدث عن حدث إلغاء العرض التشهيري حيث يُجَرُّ المجرم مقيداً أمام الملأ ويجري إعدامه بطريقة من طرق التعذيب. وكان من أسباب إلغائه أنه يظهر السجّان بمظهر المجرم والحكام بمظهر القتلة (ص32). لكن مجرمنا –ولو كان لفوكو أن يتخيل ما يمكن أن يحدث فربما أضاف أجزاء أخرى لكتابه- أقول كان مجرمنا واضحاً في الممارسة من دون تبرير، والحاكم كذلك. بل الضحية هنا بالنسبة لنا وللعالم، أقرب إلى "البانوبتيكون" الذي هو السجن المصُمم لكي يَرى فيه السجان الجميع بشكل شامل من برج مراقبة، فالسجين فيه "مرئي، ولكنه لا يُرى، إنه موضوع استعلام، ولكنه لا يشكل أبداً موضوعاً في الاتصال"(ص265). وقال فوكو عن هذا النوع من الهيكلية الانضباطية الذي استخلصه أصحابه من نظام تسيير الحياة اليومية في المدن الموبوءة بالطاعون بحيث يُحَدّ خطر الوباء، قال عن هيكليته أنها "مهيأة للانتشار في الجسم الاجتماعي، ورسالتها أن تقوم فيها بوظيفة معممة، فتعطي المدينة الموبوءة بالطاعون نموذجاً انضباطياً استثنائياً، كاملا ولكنه مطلق العنف"(ص274). كان الطاعون في حالة السلطة السابقة هو محض المطالبة بالحياة، والبانوبتيكون هو بقعة جغرافية كاملة، وفكراً جرى تطبيقه على الطفل قبل البالغ.
يتحيّر واحدنا في هذه الأثناء باحثاً عن بداية ما لفهم كل هذه التجارب الإنسانية، وجميعها تتمثل حول النتاج النفسي للإنسان، وكيفية تكوينه للخروج من هذا النفق، إذ الأمر ليس محض سلطة تَدول بين الناس، ولكنه تكوين فردي لا يلبث، في تقاطع حدث، صدفة كان أم تخطيطاً ممنهجاً، أن ينتشر ويحلّ كرداء واسع، دامغاً حقبة جديدةً ببناء جديد. وعلى هذا الأساس، ليس لنا إلا أن نحكي، وأن نكتب. فلنكتب للأطفال على الأقل، ليس كحل سحري، ولكن خوفاً من أن ينسى طفلنا يوما ما، ما العصفور وما الشجرة، ولكن أهم من ذلك كله، فلنعلمه: ما الظلم، ولماذا علينا تجنبه.