حين قامت الثورة السورية عام 2011 كان أحد أولويات أجهزة الأمن حماية تماثيل الرئيس الأسبق حافظ الأسد، ولذلك خصصت لهذه المهمة القسم الأكبر من عناصر الأمن المكلفين بمواجهة المظاهرات، وذلك لعدة أسباب، الأول هو، رمزية الأسد التي تتوسل الأبد، وتحاكي الخوف وهيبة السلطة، وهذا ما لاحظة الباحثون الأجانب الذين درسوا مظاهر الهيمنة في سوريا، ومنهم عالمة الاجتماع الأميركية ليزا ويدين، أستاذة العلوم السياسية في جامعة شيكاغو في كتابها المعروف "السيطرة الغامضة: السياسة، الخطاب والرموز في سوريا المعاصرة"، الذي خصصته لتوضيح الآليات التي يتبعها الطغاة في فرض طاعتهم وتقديسهم على الناس من حولهم، وذاك من خلال دراسة أساليب نظام الحكم في سوريا، في السيطرة على فضاء المعاني والخوف، ومقارنتها بتجارب ديكتاتورية مشابهة أخرى. والسبب الثاني يتعلق بالمظاهرات، ذلك إن التمثال يمثل أعلى رمزية للسطة، ويقع الأسد الأب في أعلى التراتبية، والتعرض له بأي شكل من الأشكال هو هجوم على النظام أكثر من أي مؤسسة من مؤسسات السيطرة، بما في ذلك أجهزة الأمن، وهناك درجات للتحدي وتجاوز حواجز الخوف، تبدأ برمي التمثال بقشور الفواكه والأحذية وتلويثه بالدهان، وكتابة شتائم فوقه، وحتى العمل على اسقاطه، وهذه هي الدرجة القصوى من الجرأة، التي يسقط عندها الخط الأخير، الذي استمر النظام في بنائه منذ اليوم الأول لوصوله إلى الحكم، ليحول البلد إلى قلعة للخوف ومملكة للصمت. وعلى هذا الأساس، يمكن تفسير الهجوم على التماثيل بعد سقوط النظام في الثامن من الشهر الماضي، وتحطيمها بعنف من قبل المتظاهرين الذين نزلوا للشوراع من اجل الاحتفال بالخلاص، لا يمكن قراءة ذلك، إلا كتعبير عن احتقان داخلي، ونقمة مكبوتة، ومحاولة للتنفيس عن غضب شديد، اختزنته الصدور لزمن طويل.
وفي هذا السياق أجرت قناة "تلفزيون سوريا" مقابلة مع محافظ مدينة حماة عشية الثورة أحمد خالد عبد العزيز، قدم فيها شهادة عن منهج السلطة في التعاطي مع أولى التظاهرات التي شهدتها المدينة ذات الخصوصية، كونها تعرضت لمجزرة على يد قوات النظام السوري عام 1982 راح ضحيتها أكثر من 30 ألف شخص، حسب تقارير العديد من المنظمات الدولية الحقوقية والانسانية. وتحدث المحافظ عن قرار مسبق لدى أجهزة الأمن بإطلاق النار على المتظاهرين، في حين أن أجهزة الدولة الأخرى كانت تحاول استبعاد الحل الأمني، ويسرد حكاية معبرة جداً عن العهد البائد، عن حرص أجهزة الأمن على حماية تماثيل الرئيس الأب، التي كانت تنتشر في مداخل وساحات المدن والقرى، في الجامعات وملاعب الرياضة والمطارات. ويقول إن همها كان منصباً على حراسة التمثال الرئيسي في مركز المدينة، ومن 1500 رجل أمن لقمع المظاهرات، التي بدأت تشهدها المدينة، تم تخصيص 1200 لحماية التمثال من المتظاهرين، وكانت الأوامر من مسؤول جهاز الأمن العسكري العميد محمد مفلح بإطلاق النار على كل من يتعرض للتمثال.
يروي المحافظ أنه عرض في اجتماع الخلية الأمنية المكزية ما تشكله مسألة حماية التمثال من تحييد 1200 رجل امن محترف، متخصص في مواجهة المظاهرات، وذلك قبل أن يتم عزله بعد المظاهرة المليونية الكبرى التي شهدتها المدينة في الأول من تموز- جمعة ارحل، بسبب مرونته مع المتظاهرين. ويقول إنه استقر الرأي داخل الخلية على إزالة التمثال مؤقتاً، وقد حصل ذلك نهاراً. وحين وجد المتظاهرون المكان خالياً من التمثال، عمموا على وسائل التواصل بأن النظام سقط في حماة، لكن المفاجأة كانت في صباح اليوم التالي أن المدينة أفاقت على حمار يقف على قاعدة التمثال، وبجانبه كلب يحرسه، الأمر الذي ترك صدمة لدى القصر الجمهوري في دمشق. ويقول المحافظ إنه استدعى بعض فعاليات المدينة من الذين على صلة بقيادة المتظاهرين، وأبلغهم أن ذلك التصرف سوف يدفع أجهزة الأمن للتوحش، وكان جواب هؤلاء أن المخابرات هي التي وضعت الحمار والكلب، وليس المتظاهرون، ما يكشف عن نهج شيطنة المتظاهرين، الذي تم تعميمه في الأشهر الأولى للثورة بطرق وأساليب مختلفة، منها توزيع السلاح على المتظاهرين السلميين من أجل اتهام الثورة بأنها غادرت شعارات السلمية، وصارت تستخدم السلاح، وبذلك يتم تبرير زج الجيش في التصدي للمتظاهرين.
يفيد المحافظ السابق بأن أول خطوة قام بها النظام بعد أن سيطر على مدينة حماة هي إرجاع التمثال إلى مكانه، بعد أن تم الاحتفاظ به في أحد مخازن المحافظة، وذلك كدليل على الرمزية العالية للتماثيل في فلسفة الحكم التي استعارها الأسد من كوريا الشمالية ورئيسها الأسبق كيم إيل سونغ الذي تكتظ الساحات الكورية بتماثيله حتى اليوم، وقد درجت موضة تماثيل الأسد في بداية السبعينيات بعد فترة قصيرة من إمساكه بالحكم في انقلاب 1970، وسرت موجه في الإعلام قادها وزير الاعلام في حينه احمد اسكندر أحمد، ترفع الأسد إلى مرتبه القداسة، وكانت بعض الأوساط لا تلفظ اسمه واستبدلته بأ"المقدس". وبلغ النفاق درجة أن العديد من الوزراء والمحافظين صاروا يتسابقون على صناعة تماثيل للأسد، وجرى إطلاق مسابقات رسمية للنحاتين من أجل صناعة أفضل تمثال، وكاد أحد النحاتين المعروفين أن يدخل السجن بعد أن فاز النموذج الذي قدمه، لأن التنفيذ لم يعجب الأسد، وفهم من أن صاحب العمل يضمر شرا تجاهه، وأراد تقديمه على نحو كاريكاتيري، ولكن النحات أنقذ رأسه بتمثال يظهر فيه جبروت الطاغية.