يعبر فريق واسع من اللبنانيين، عن رغبته في وصول رئيس "قوي" إلى موقع رئاسة الجمهورية. تضمر مفردة القوة، لدى هؤلاء، مواصفات النزاهة ونظافة الكف والاستقلالية والقدرة على المبادرة، مثلما تنطوي على افتراض الشجاعة اللازمة لدى الرئيس، التي تؤهله لفرض القانون على الجميع... بعد أن صار التجاوز على القوانين والأعراف والمؤسسات، قانوناً!
فرضية اللبنانيين الرئاسية، تلك، تُدني الرئيس المطلوب من مرتبة المخلِّص، وتتسامح في صفات "الديكتاتور" فيه، ولا تمانع، من إسلاس قياد الجمهور العام لمشيئة "المستبد العادل".يسمح الوضع اللبناني بالقول، إن الظروف السياسية والاجتماعية فيه شابهت في مراحل مختلفة ظروفاً عربية أخرى، مهَّدت السُبل أمام ظهور المخلّصين من أبناء "البيان رقم واحد"... لكن التشكيلة الطوائفية الداخلية، ومسارها التاريخي، منعا دائماً تشكل استبداد وطني عام، وحالا دون بروز "القائد الوطني الفرد"... بديلاً من ذلك، وكتعويضٍ عن نقص في الالتحاق "بالأقران العرب"، اكتفى كل فصيل طائفي لبناني باستبداده الخاص، وكان له في منبر القيادة "قائده المُلْهم" الذي يدير شؤون فرادته الأهلية الضيقة، المقيمة على تماس مع "الأهليات" الأخرى. هنا التماس ظلّ قاصراً عن دقّ أبواب الاندماج المجتمعي... وما زال مقصّراً دون ذلك، حتى الآن.
لكن بعيداً من توق اللبنانيين الخلاصي، يجب الاعتراف بأن نظريّة الرئيس القوي في لبنان، مجرد وهم. بل يمكن القول إن اللبنانيين لم يعرفوا في تاريخهم رئيساً قوياً، هذا إذا أريد للقوة أن تكون مرادفا لتكوّن أغلبية لبنانية حول مصالح وطنية مشتركة، وأن تكون القوة معادلة لتوافق لبناني غالب حول بديهيات وطنية، مثل الاستقلال والعروبة والمواطنة والهوية والطائفية السياسية ونمط الاقتصاد... مما يشكل مُجتمِعاً مقدّمة ضروريّة لانتخاب رئيس "محصلة" يقود النتيجة التوافقية ويطورها، انطلاقاً من التوافق الوطني الغالب، وبالاستناد دائماً إلى موازين قواه.لقد عرف اللبنانيون بعضاً من رؤساء الجمهورية، الذين نسبت إليهم صفة القوة، لكن الوقائع أثبتت، إن الأمر لم يكن أكثر من افتراض عابر. للتذكير: أعتُبر كميل شمعون رئيساً قوياً وجاء على حاملة ائتلاف سياسي لبناني عريض، لكن ضعفه بدا واضحاً لدى احتكاك الوضع اللبناني بشبيهه العربي، وتراجعه، أي الوضع، أمام الإشكاليات الدولية.
كان لفؤاد شهاب المنزلة نفسها، فجرّته قوة النظام الطائفي إلى "ضعفه الاستنكافي" وانسحابه من الحياة السياسية. وعلى الطريق نفسه سقط "مشروع بشير الجميل القوي" بفئويته، ولم ينفع أخاه أمين الجميل شِبْهُ الإجماع البرلماني، مثلما لم ينفع الرئيس المنتهية ولايته ميشال عون. لذا يمكن أن يقال في رئاستَيْهما، إن لحظة القوة لديهما لم تتجاوز عتبة مقر جلستيّ الانتخاب النيابيتين!في الراهن الرئاسي اللبناني، تشير كل المقدمات الاجتماعية والسياسية إلى ضعف الرئيس المقبل للجمهورية، هذا من دون انتظار لمعرفة المواصفات الشخصية للرئيس العتيد. إذ أنّ المواصفات لا دور لها سوى في تطوير أو انتكاس الإيجابيات الوطنية العامة في حال توفرها، والحدّ من السلبيات أو تعظيمها في حال إمساك منطقها بحياة اللبنانيين.
لا خلاف بين المراقبين اليوم، على أن "المجتمعات اللبنانية" في وضعية اصطفاف أهلي حاد. والرئيس عادة وليد اندماج نسبي أو مشروع اندماج ما. كذلك لا مفارقة للواقع القول بثقل التدخل الخارجي في لبنان، الدولي والاقليمي والعربي. والرئيس "القوي" حامل لواء حيّز لبناني فعلي، لا يمكن التجاوز عليه من قبل الخارج المؤثر فيه، بسبب من قدرة هذا الحيّز الداخلي على الاحتمال، ولعدم إيصاله إلى حافة الاهتزاز والاختلال.
إلى هذا وذاك، يضاف واقع العجز العربي العام، الذي يصارع ليحتل مرتبة ما فوق "الصفر" بقليل، في ميدان الصراعات الدولية والإقليميّة. والرئيس القوي هو أيضاً حصيلة توازن عربي، يحدُّ من عشوائية تدخل "الدولي"، ويتدخل لضبط انفلات التوازنات الداخلية، خصوصاً الانفلات الموسوم بعناوين "عروبية وقومية".كل عناصر الصورة الصعبة تلك، تفاقم من صعوبتها، كما سلف، حالة الوحدة الداخلية اللبنانية المتراجعة إلى حدود دنيا، وحالة الاختلاف المستشري حول تعريف البديهيات وحول الاستعداد للالتزام بمقتضياتها. هذه كله تضعنا، تكراراً، أمام رئيس لا يقوى على المبادرة، لا في الداخل ولا في الخارج، ولا يستطيع الاستناد إلى قاعدة اجتماعية مختلطة مؤطّرة ومحدّدة بعناية، مثلما لا يستطيع الجهر ببرنامج مصالح عابرة، تحصّن المبادرة الوطنية العامة، في حال وجودها.
كان ذلك، إشارة إلى بعض جوانب الوضع الذي يجعل رئيس الجمهورية القادم ضعيفاً، بالضرورة والاستنتاج. لكن ماذا عن قوى الوضع أيضاً؟ أي ماذا عن مساهمتها الإضعافيّة الإضافية لموقع رئاسة الجمهورية؟المارونية السياسية، "أم الرئاسة الأولى"، ترثُ الآن تاريخ تراجع مطّرد، أطلقت صفارته عشية انفجار الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975. لقد أدت التطورات المتسارعة منذ ذلك التاريخ، إلى الترنّح المتمادي "للطائفة الممتازة"، وفقدت قدرتها تباعاً، على تحصين امتيازها في بيئتها أولاً، مما أفقدها استطراداً، وعلى خلفية عوامل شتى، أن تشكل محور "الهيمنة الوطنية" اللازمة، لاستقامة أي اجتماع داخلي.
الإسلام السياسي، الصاعد عموماً، بفئاته كافة، صارع من أجل "إزالة الغبن"، وها هو قد بات، بعد اتفاق الطائف، وبعد كل المقدمات التي أدّت اليه، في موقع "الغابن". لذلك، فإن هذا الإسلام السياسي لا يسعى حقاً إلى الالتزام ببنود اتفاق الطائف، التي كرّست تراجعاً في دور رئاسة الجمهورية، لأن الوقائع الملموسة تجاوزت كل النصوص.ما الخلاصة من ذلك؟ ليس أقل من القول، إن الإسلام السياسي بفروعه المذهبية ما زال يخوض معركة المحاصصة على موقع الرئاسة، لأن هذا الموقع واحد من مقومات صناعة الحصة الخاصة بكل مذهب إسلامي على حدة، أي إنّ كل "إسلامية خاصة" تسعى إلى تثقيل وزنها الفئوي، في مختلف مراتب صناعة القرار الوطني، مثلما تجهد في سبيل انتزاع أكبر قطعة من "جبنة النظام العام". على ضوء ذلك تبدو التحالفات رجراجةٌ، ويعتريها الكثير من الوهم أيضاً، خصوصاً من قبل بعض قادة المارونية السياسية، الذين يحاولون أن يستعيدوا من الإسلام السياسي، ما اجتمع على أخذه منهم، كل هذا الإسلام!
كل ما تقدم لا يلغي مشروعية طموح اللبنانيين إلى رئيس جمهورية من "طراز آخر"، تنتجه مسارات اجتماعيّة وسياسيّة مغايرة، وتسمح بالوصول إليه مؤسسات وقوانين تتجاوز الفردية الرجائية، والخلاصيّة المتأرجحة، إلى حال من الرسوخ والاستقرار، مما يجعل تداول السلطات وتبدل المشرفين عليها والناطقين باسمها، عملية روتينية لا تهدد في كل مرة الأعمار والأوطان!