"ميني مافيا" هو البرنامج الذي عرضته "قناة "الجديد" و"Ltv"، وظهر فيه أطفال يظن المشاهد للوهلة الأولى أنهم يجلسون على طاولة مستديرة للاستمتاع بلعبة جماعية، قبل أن يدرك أنهم يشاركون في نقاشات سياسية وطائفية معقدة، بشكل يظهر مدى استغلال الإعلام المحلي للأطفال لأغراض سياسية.
وفيما يفترض أن تكون البرامج الموجهة للأطفال مساحة للترفيه أو التعلم بما يتناسب مع أعمارهم، أثار البرنامج جدلاً واسعاً بسبب محتواه، حيث تحول الحوار بين الأطفال إلى خطاب تحريضي وإلغائي، ما أثار تساؤلات خطيرة حول الأثر النفسي والاجتماعي لهذا النوع من البرامج على الأطفال، ومدى التزام المؤسسات الإعلامية بحماية حقوقهم ودرء أي شكل من أشكال الاستغلال عنهم.
وعلقت المستشارة الدولية في مجال حماية الطفل، زينة علوش: "بالشكل العام، لا يبدو أن توقيت عرض البرنامج أو ملابس المذيعة أو أسلوب تقديمها يتناسب مع موضوع يتعلق بالأطفال. هناك استغراب واضح حول سبب اختيار توقيت الساعة التاسعة والنصف مساءً، والإطار العام للبرنامج. ورغم أنني لا أنتقد المذيعة شخصياً، إلا أن لباسها وحضورها العام لا يتلاءمان مع طبيعة برنامج يُفترض أنه مخصص للأطفال. حضورها يبدو أقرب إلى برامج موجهة للكبار ولا يتناسب مع موضوع يتعلق بالصغار".وأضافت علوش في حديث مع "المدن" أن الجزء الأول من البرنامج، الذي ركز على إبراز إمكانات الأطفال وتفوقهم بحضور أهاليهم، كان إيجابياً ويعكس روح الدعم. لكنها شددت على أن الجزء الثاني، الذي تضمن سجالات سياسية وطائفية بين الأطفال، مثل مشكلة أكبر.وأوضحت علوش: "في الجزء الثاني، تم تقديم سجالات بين أطفال تم استدراجهم لأداء أدوار الكبار وتبني خطابات سياسية أو عقائدية معقدة. بلغ ذلك حداً دفع المذيعة لاستدراج أحد الأطفال للإفصاح عن خضوعه لتدريب عسكري وحمله للسلاح، بينما ارتدى كل طفل زياً تقليدياً يعكس انتماءً حزبياً. هذا المشهد يعيدنا إلى مشاهد مشابهة سبق عرضها في برامج أخرى قوبلت بالانتقاد بسبب زج بالأطفال في خطابات ومواقف لا تتناسب مع أعمارهم أو اهتماماتهم".وأعربت علوش عن قلقها إزاء المخاطر التي يتعرض لها الأطفال بسبب هذا النوع من البرامج، مضيفة: "حتى لو نشأ الأطفال في بيئات تُشبعهم بهذه الأفكار والخطابات، لا يمكن للإعلام أن يُظهر هذا التأثير عليهم بشكل مباشر على الهواء، لأن ذلك يعرضهم لمخاطر عديدة، منها التنمر وربما المساءلة القانونية. كيف يمكن أن يُعرض طفل يبلغ من العمر 12 أو 13 سنة على الشاشة ليقول إنه تدرب على حمل السلاح؟ وكيف يمكن أن يتم استغلال الأطفال لتبني مواقف مذهبية أو دينية أو عقائدية في وقت لم تتح لهم فرصة التفكير النقدي أو بناء خطاب مسؤول ومستقل؟".وأكدت علوش على أن تعريض الأطفال لهذه المواقف يحمّل وسائل الإعلام مسؤولية أخلاقية كبيرة: "إذا كان الهدف من البرنامج توجيه رسالة للأهل بأن هذه السلوكيات خطأ، فلا يمكن تحقيق ذلك بتعريض الأطفال لمخاطر أكبر من الأخطاء التي ارتكبها الأهالي بحقهم. هذا يُعد انتهاكاً لحقوق الأطفال ومبادئ حماية الطفل في الإعلام. من يحمي هؤلاء الأطفال من التنمر في المدارس؟ من يحميهم من العواقب الاجتماعية أو القانونية التي قد تترتب على تصريحاتهم؟".
والحال أن هذه النوعية من البرامج تعكس أزمة حقيقية في بعض الممارسات الإعلامية التي تتجاهل حقوق الأطفال وتستغل براءتهم لتحقيق أهداف مثيرة للجدل أو مكاسب تجارية، وزجّ الأطفال في نقاشات وقضايا معقدة تتجاوز مستوى نضجهم لا ينتهك فقط مبدأ "مصلحتهم الفضلى"، بل يعرضهم لمخاطر وضغوط نفسية واجتماعية قد تترك آثاراً سلبية طويلة الأمد.كما أن حماية الطفولة ليست مجرد شعار يُرفع أو التزام نظري، بل هو واجب أخلاقي وقانوني يتطلب من المؤسسات الإعلامية مراجعة ممارساتها بجدية، لأن تحويل الأطفال إلى أدوات لنقل رسائل سياسية أو اجتماعية يضعهم في مواقف محرجة قد تُشوه تجربتهم وتُعرضهم لمخاطر التنمر أو العواقب الاجتماعية المؤلمة.والمطلوب هو تقديم محتوى يحترم أعمار الأطفال ومستوى وعيهم، ويعمل على خلق بيئة إعلامية آمنة تُعزز نموهم النفسي والاجتماعي وتحترم كرامتهم. وتجاوز هذه المبادئ لا يقتصر ضرره على الأطفال، بل يفضح غياب الالتزام الإعلامي بالقيم الإنسانية الأساسية، ويضع المسؤولية على عاتق الجميع لإصلاح هذا المسار بما يضمن حماية الطفولة من أي شكل من أشكال الاستغلال.وهنا، رأت الباحثة في مؤسسة "سكايز" الصحافية وداد جربوع، في حديث مع "المدن" أن "إشراك الأطفال في البرامج التلفزيونية يعد قضية حساسة ومهمة، تتطلب مراعاة عدد من الجوانب الأخلاقية والمهنية لضمان حماية الطفل نفسه، وتجنب أي تأثير سلبي على نفسيته أو مشكلات قد تواجهه لاحقاً". وأوضحت أن إدخال الأطفال في برامج سياسية أو قضايا جدلية يُعد أمراً غير مقبول، مشيرة إلى المخاطر المرتبطة بهذا الأمر.
وأكملت جربوع: "إدخال الأطفال في برامج سياسية يُعد أمراً غير مقبول، خصوصاً عندما يواجهون مواقف مستفزة قد تعرضهم للخطر أو للاعتداء من جهات معارضة، خصوصاً في بيئات سياسية متوترة ومعقدة"، كما سلطت الضوء على استغلال الأطفال في البرامج لتحقيق نسب مشاهدة أو مكاسب مادية: "يجب حماية كرامة الطفل من الاستغلال لتحقيق نسب مشاهدة أو مكاسب مادية، وهو ما نلاحظه في بعض البرامج التي تستخدم الأطفال كوسيلة لتحقيق أرباح، وهو استغلال مرفوض تماماً".وأشارت جربوع إلى دور الأهل في تفاقم المشكلة، "فللأسف، كثير من الأهالي يشاركون في هذه المشكلة بدلاً من حماية أطفالهم، حيث يسمحون بمشاركة أبنائهم في هذه البرامج، ويغرسون فيهم أفكاراً لا تناسب أعمارهم أو مستوى وعيهم، بل ويشعرون بالفخر بما يقوله الطفل من مواقف سياسية، من دون إدراك الأثر النفسي الذي قد يترتب على ذلك".