في مستهل فيلم "Interstellar"، يتمكن "كوبر" (ماثيو ماكونهي) من السيطرة على طائرة مسيّرة عسكرية بعد اختراق نظامها، معبّرًا في ختام المشهد عن عزمه على توظيفها لخدمة المصلحة العامة. خلال هذه العملية، تتم مطاردة الطائرة فوق حقل زراعي شاسع، في إشارة ضمنية إلى دورها المفترض في رصد حالة المحاصيل والوقاية من الآفات والأمراض.
ما كان يُعد ضربًا من الخيال العلمي قبل عقد من الزمن أصبح اليوم واقعًا بفضل تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي الطَرَفي (Edge AI). تتيح هذه التقنية للأجهزة المحمولة الصغيرة معالجة البيانات محليًا، من دون الحاجة إلى اتصال بالسحابة. وكما يوحي اسمها، تعمل Edge AI "على الطرف"، أي بالقرب من المستخدم، حيث يُستضاف برنامج الذكاء الاصطناعي محليًا، بدلًا من الاعتماد على منصات سحابية كبيرة مثل ChatGPT.إنفيديا جيتسون: قوة الذكاء الاصطناعي بحجم الكفيُعد جهاز NVIDIA Jetson Nano نموذجًا للذكاء الاصطناعي الطَرَفي. بفضل تصميمه الذي يجمع بين الأداء القوي والحجم المدمج. بسعر لا يتجاوز 250 دولارًا، يتيح هذا الجهاز تشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي محليًا بكفاءة، مستفيدًا من معالج ARM Cortex-A57 رباعي النواة ووحدة معالجة رسومات NVIDIA Maxwell.
يدعم الجهاز مجموعة واسعة من برمجيات الذكاء الاصطناعي مفتوحة المصدر (Open-Source)، بما في ذلك TensorFlow وOLAMA، مما يمكّن المطورين من إنشاء تطبيقات متخصصة في مجالات متعددة مثل الرؤية الحاسوبية ومعالجة اللغة الطبيعية.باستهلاكه المنخفض للطاقة (بين 5 إلى 10 واط)، يُعتبر جهاز "جيتسون نانو" أداة فعّالة للتطبيقات المتخصصة والمستقلة. وعلى الرغم من أنه لا يمتلك القدرات الضخمة لأنظمة مثل ChatGPT أو Gemini، إلا أنه يُعد حلاً مثاليًا للتطبيقات المحمولة، خصوصاً في المناطق النائية، من دون الحاجة إلى بنية تحتية معقدة.مستقبل الزراعة والمدن الذكية مع Edge AIستتمكن الطائرات من دون طيار المزودة بتقنيات الذكاء الاصطناعي من إحداث تحول جذري في الزراعة الذكية، حيث ستُحلل الحقول بدقة لتحديد مشكلات مثل الأمراض النباتية أو نقص المياه. سيسمح تحليل بيانات المحاصيل في الوقت الفعلي للمزارعين باتخاذ قرارات سريعة تعزز الإنتاجية وتقلل من الهدر. كما يوفر الذكاء الاصطناعي الطَرَفي فرصة لتعزيز التكامل المفقود بين التكنولوجيا والبيئة.
وفي المدن الذكية، ستتمكن الكاميرات الذكية من مراقبة حركة المرور بكفاءة، والتعرف على الحوادث فور وقوعها، والتنبؤ بأنماط تلك الحركة لتطوير البنية التحتية وتخفيف الازدحام المروري. كما ستسهم هذه التقنيات بشكل كبير في الكشف عن الأنشطة المشبوهة والتهديدات الأمنية في الوقت الفعلي، مما سيوفر استجابة أسرع وأكثر كفاءة للطوارئ.المتاجر الذكيةسيحدث الذكاء الاصطناعي الطَرَفي تحولًا جذريًا في قطاع التجزئة، عبر تجهيز الرفوف بمستشعرات وكاميرات ذكية لمراقبة المخزون بشكل مستمر، مما يضمن توافر المنتجات وتجنب نفاذها. ستتغير تجربة التسوق بشكل كبير، إذ سيتمكن الزبائن من دخول المتاجر، اختيار المنتجات التي يرغبون فيها، ومغادرتها بسهولة، بينما يتم خصم قيمة المشتريات مباشرة من حساباتهم عبر تطبيقات ذكية مدمجة. فضلاً عن إمكانية هذه التقنيات بتحليل أنماط الشراء بدقة، مما يسهم في تحسين كفاءة مراحل الإنتاج والتوزيع بشكل غير مسبوق.
تعد متاجر مثل Amazon Go أمثلة حية على المتاجر الذكية، بينما تعتبر الصين من الدول الرائدة في هذا المجال، حيث تحتوي مدينة شينزين على العديد من هذه المتاجر. ومع انخفاض تكلفة تقنيات الذكاء الاصطناعي الطَرَفي، سيصبح من الممكن للشركات الصغيرة والمتوسطة الاستفادة من هذه التقنيات في المستقبل.التصنيع الذكي: الصيانة الاستباقية والإنتاجية القصوىتبدو الصناعة من أكثر القطاعات استفادة من هذه التقنيات، حيث يبرز دور الذكاء الاصطناعي الطَرَفي في تمكين المصانع من استخدام أنظمة ذكية لمراقبة أداء الآلات وتحليل بياناتها في الوقت الفعلي. بفضل هذه الأنظمة، يمكن اكتشاف الأعطال المتوقعة قبل حدوثها، مما يتيح تنفيذ صيانة استباقية. هذا يساعد في تقليل توقف العمل المفاجئ ويساهم أيضًا في تعزيز الإنتاجية عبر ضمان تشغيل الآلات بكفاءة عالية. كذلك، يمكن للصناعات الصغيرة الاستفادة بشكل كبير من الذكاء الاصطناعي الطَرَفي من خلال تبني الأنظمة الذكية منخفضة التكلفة.
مع تزايد الاعتماد على هذه الأنظمة، قد يصبح من الضروري للعمال اكتساب مهارات إضافية في مجال الذكاء الاصطناعي إلى جانب مهاراتهم التصنيعية التقليدية. سيكون عليهم تعلم كيفية فهم وتحليل بيانات الأنظمة الذكية واستخدامها. وفي حال عجز العامل عن مواكبة هذه التقنيات أو تطوير مهاراته، قد يواجه صعوبة في الحفاظ على مكانه في سوق العمل. تعزيز الاستجابة للكوارث الطبيعية وحالات الطوارئفي حالات الكوارث الطبيعية والطوارئ، يُعد الذكاء الاصطناعي الطَرَفي أداة أساسية لتحسين استجابة الفرق المختصة. على سبيل المثال، يمكن معالجة الصور الجوية أو رصد الأنشطة الجيولوجية المرتبطة بالكوارث الطبيعية مثل الزلازل أو الفيضانات. هذه القدرة على المعالجة الفورية تمكّن الفرق المختصة من اتخاذ قرارات سريعة ودقيقة في المواقف الحرجة.
في مواقع الكوارث، سيتمكن المستجيبون للطوارئ من تقييم الوضع بشكل فوري ودقيق بفضل الذكاء الاصطناعي الطَرَفي. هذه التكنولوجيا تسمح بتحديد المناطق الأكثر تضررًا بسرعة، مما يساهم في توجيه جهود الإغاثة إلى النقاط الأكثر إلحاحًا. علاوة على ذلك، يمكن تحليل البيانات المتعلقة بحالة المصابين، مثل مستوى الإصابات أو احتياجات الإسعاف، مما يسمح بتقديم الإسعافات الأولية بشكل أكثر دقة وفي الوقت المناسب.مخاطر الـEdge AIعند الحديث عن مخاطر الذكاء الاصطناعي، غالبًا ما نلاحظ مبالغة في التهويل، يتم في كثير من الأحيان لأغراض مثل جذب الانتباه أو تحقيق مشاهدات أو مبيعات. يُصوَّر الذكاء الاصطناعي التوليدي، مثل نماذج اللغة الكبيرة (LLM)، ككائنات متجهة نحو الإدراك، في حين أن الحقيقة أبسط بكثير. هذه النماذج تعمل بناءً على آلية رياضية لتحليل البيانات وصياغة جمل باستخدام الكلمات من اللغات الطبيعية والبرمجية، ولكنها لا تمتلك فهماً لما تقوم به.
إن تصوير الذكاء الاصطناعي في المستقبل كروبوت مدرك لا يعكس فقط فهمًا مغلوطًا لهذه التقنيات، بل يعكس أيضًا عدم فهم لكيفية تشكُّل الوعي لدى البشر بشكل عام. الوعي البشري، الذي تطور لآلاف السنين، ناتج بشكل رئيسي عن تفاعل أجهزة الإحساس لدينا مع البيئة المحيطة. وهو تطور بيولوجي معقد مدفوع بالأساس من الحاجة. بينما تعمل نماذج الذكاء الاصطناعي من خلال خوارزميات رياضية لا تحتاج إلى "إدراك" لتنجز مهامها. لذلك، لا أدري ما حاجتها لتطوير "وعي"، بينما لديها كل ما تحتاجه: خوارزمياتها.
لكن إذا استبعدنا سوء الفهم والتهويل، فإن هناك مخاطر حقيقية في تقنيات الذكاء الاصطناعي الطَرَفي، وهي تكمن ببساطة في قدرته على تنفيذ ما هو مبرمج له. تكمن الخطورة تحديدًا في أنه لا يمتلك أي فهم لما يقوم به، بل يتخذ القرارات بناءً على برنامجه والبيانات المدخلة إليه، من دون أن يكون لديه القدرة على تقييم العواقب أو فهم السياق.
على سبيل المثال، يمكن لطائرة مسيرة مزودة برشاش أن تنفذ عملية قتل جماعي استنادًا إلى معايير برمجية مثل لون البشرة أو الجنس أو نوع من أنواع الكائنات الحية. قد يبدو هذا الأمر مرعبًا، إلا أنه شر بشري في المقام الأول والأخير. لذلك، على المجتمعات أن تتخذ خطوات جادة وتشريعات قانونية لسن القوانين اللازمة للحد من سوء استعمال هذه التقنيات.تقنيات الذكاء الاصطناعي الطَرَفي ليست مجرد ابتكار تقني آخر، بل تمثل خطوة مهمة نحو دمقرطة التكنولوجيا وتقليص هيمنة الشركات الكبرى على السوق، والحد من استغلال بيانات المستخدمين. فمن خلال بناء قاعدة بيانات مستقلة واستضافة الذكاء الاصطناعي على خوادم محلية صغيرة، قد تمثل هذه التقنية الانطلاقة الحقيقية للثورة الصناعية الخامسة.