يعد الواقع السوري بما يحمله من عبء الماضي، ومخاطر المستقبل المفتوحة على كل الاحتمالات، أحد أعقد الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في العصر الحديث. ولعل أولوية الأمن التي يضعها قائد الإدارة السورية الحالية (أحمد الشرع) لتحقيق الاستقرار تمثل جوهر أي عملية لاحقة للنهوض ببلد لم يبق منه على مستوى المؤسسات أكثر من أسمائها. ومن ذلك الجيش السوري الذي اختطفه نظام الأسد (الأب والابن) وحوله إلى حرس خاص لمزرعته. وهو ما يفسر ضلوع معظم ضباطه ومسؤوليه -ممن حافظوا على مواقعهم معه خلال حربه ضد معارضيه- بجرائم إبادة ضد الشعب السوري. ما يعني أن البناء على ماضي هذه المؤسسة ليس خيارًا متاحًا عند الحديث عن جيش سوري بمهام وطنية كبرى.من هنا تبرز أهمية التفكير في آلية تشكيل بنية الجيش الجديد، وضمانات الانتساب له، إضافة إلى طبيعة علاقته بالقوى السياسية والسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. فالسؤال المطروح هنا هو: ما هي الأحكام الدستورية التي تضبط مرجعية الجيش؟ وهل تكون الأولوية لصياغة إعلان دستوري يحدد معالم المرحلة الانتقالية، أم لإعادة تشكيل الجيش الوطني من الفصائل المسلحة رغم الاتهامات الموجهة لبعضها بارتكاب انتهاكات؟ وما العلاقة بين نزع السلاح وتحديد هوية الوطن ومهام الجيش؟
في كل التجارب التي يمكن الركون إليها، يعد الإعلان الدستوري أساسًا لأي عملية انتقالية ناجحة. فهو يُحدد القواعد العامة للمرحلة الانتقالية ويضع خارطة طريق تُطمئن الجميع. والحالة السورية ليست استثناءً، بل هي ضرورة في ظل واقع فصائلي مشتت الهويات والأهداف والمرجعيات الإيديولوجية، وحتى رغبات مقاتليها في الاستمرار من عدمه في حمل السلاح، واستخدامه كقوة موجهة إلى الداخل أو الخارج.وجود إعلان دستوري واضح يمكن أن يُجنب البلاد فراغًا قانونيًا وسياسيًا، ويوفر ضمانات لحقوق الجميع. هذا الإعلان يمكن أن يضع مبادئ أساسية مثل وحدة الدولة، حيادية المؤسسات الأمنية، والالتزام بالعدالة الانتقالية. كما أنه يُرسل رسالة واضحة للفصائل المسلحة وللشعب بأن هناك خطة جدية للمستقبل، ويوضح حقوق المنضمين للجيش وواجباتهم ووحدة توجهاتهم كجيش وطني بأجندة واحدة وطنية.
فتشكيل جيش وطني من الفصائل المسلحة التي تأسست في ظروف الفوضى والحرب وانفلات السلاح، والشعور بالغضب والرغبة في رد عدوان النظام على شعبه، إضافة إلى الواقع المالي الصعب لبعض المنتسبين إليها، أو دخول جماعات مرتزقة وقبولهم الأجندات الخارجية، يجعل من هذه الأمر قبل وجود إعلان دستوري يضبط ويحمي المشاركين فيه، مغامرة غير محسوبة العواقب. وهو حتما ليس بالمهمة السهلة.
كما أن طلب نزع السلاح من الفصائل المسلحة هو عملية شائكة، ولن تحدث بالسلاسة التي جرى فيها الاتفاق على إسقاط النظام. فبعد التحرير تنبت بذور الشكوك، مما يجعل عملية تسليم السلاح من دون ضمانات حقيقية لمستقبل أفرادها وقادتها عرضة للرفض من بعضها، والقبول الحذر من بعضها الآخر. في المقابل، قد يظل البعض محتفظًا بسلاحه لأنه صاحب مصلحة ومالك للسلطة.من أبرز التحديات التي تواجه دمج الفصائل المسلحة في جيش وطني موحد هو اختلاف الأيديولوجيا وأسباب الانضواء في العمل المسلح. فبعض الفصائل تحمل رؤى متناقضة حول شكل الدولة ومؤسساتها، مما يجعل التنسيق بينها معقدًا. هذا التباين الأيديولوجي يمكن أن يؤدي إلى تصادمات داخلية، ما لم يتم وضع إطار واضح يحدد مهام الجيش الجديد كقوة حيادية تعمل لصالح الدولة فقط، بعيدًا عن أي أجندات حزبية أو فكرية. ومن هنا يأتي دور الإعلان الدستوري الذي يمكن أن يحدد هوية الدولة ويطمئن الجميع بأن حقوقهم محفوظة.
يستدعي الوضع الحالي البدء في حوارات داخلية لمعرفة الراغبين في الاستمرار في العمل العسكري تحت إطار حيادي يخدم الدولة ومؤسساتها. وفي الوقت ذاته، يجب الاتفاق على حل الفصائل تدريجيًا، مع ضمان استمرار الدعم المالي لفترة محددة، ما يمكّن الأفراد من اتخاذ قرارهم (الحر) سواء بمتابعة العمل العسكري أو التحول إلى نشاطات مدنية أخرى. هذه الخطوة ضرورية لتجنب تشكيل مجموعات مسلحة قد تتحول إلى نواة لثورة مضادة.من المفيد التذكير بأن كثيرًا من العاملين حاليًا على حماية مناطقهم انضموا إلى الفصائل المسلحة بشكل تطوعي، لكن مع مرور الوقت لن يكونوا قادرين على متابعة هذا العمل من دون مقابل مادي. لذا، فإن توفير فرص عمل أو إدماجهم في مؤسسات الدولة بشكل يضمن لهم مصدر رزق مستدام يُعد جزءًا أساسيًا من أي خطة لنزع السلاح وإعادة التأهيل.
الإعلان الدستوري وتشكيل الجيش مترابطان. الأول يُحدد دور الجيش ومهامه، والثاني يُنفذ هذه المهام ويحمي المرحلة الانتقالية. لذلك، العمل على المسارين معًا قد يكون الخيار الأفضل. ترتيب الأولويات في سوريا يجب أن يكون مدروسًا، فالإعلان الدستوري يُعطي إطارًا واضحًا للمرحلة الانتقالية، بينما يُعد تشكيل الجيش شرطًا أساسيًا لضمان الأمن. وتحقيق التوازن بينهما هو المفتاح لتجنب الفشل ولبناء دولة جديدة تقوم على سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان.