في لبنان، هناك من لم يقتنع، حتى الآن، بالتغيير الذي حصل في سوريا. وهناك من لا يريد التصديق أن نظام بشار الأسد سقط، وأن هناك متغيرات كبيرة مقبلة. في مثل الحالة اللبنانية، قد يجوز فهم "تأخر الاستيعاب"، خصوصاً أن أجيالاً من اللبنانيين سياسياً واجتماعياً لا تعرف في سوريا والمنطقة إلا آل الأسد، فلن يكون من السهل التعامل مع غيرهم. تأخر لبنان في التواصل الرسمي مع الإدارة السورية. استمرّت الممارسات الأمنية ذاتها تجاه السوريين ولا سيما تجاه الراغبين بالعبور من لبنان إلى سوريا او استخدام لبنان كخط ترانزيت، فيتم احتجاز الآلاف منهم في المطار أو على المعابر. تأخرت الحكومة اللبنانية في التعاطي الرسمي مع الجانب السوري، ربما بانتظار استشراف وجهة هبوب الرياح الإقليمية وكيف سيتم التعامل مع أحمد الشرع. فجاء الانفتاح العربي والغربي على دمشق، ليدفع لبنان إلى التواصل الرسمي بعد إجراءات أمنية اتخذها السوريون لمنع دخول اللبنانيين. فرصة الشرع
ما وصل إلى اللبنانيين مؤخراً هو أن توافقاً إقليمياً دولياً قد حصل، على منح أحمد الشرع فرصة سنتين كصاحب سلطة، وهناك تقاطع داخل سوريا وخارجها حول هذا المبدأ لإعطائه هذه الفرصة كي يثبت حكمه وبعدها يتم الحكم عليه. يؤشر ذلك إلى دخول سوريا في مرحلة انتقالية، بينما لبنان ليس بعيداً عن الدخول في مرحلة انتقالية مشابهة، ستتجسد أكثر مع إعادة تشكيل السلطة، ولا بد للبلدين أن يتأثرا بالكثير من السياقات الإقليمية والدولية. في خضم هذه التطورات، يعيش اللبنانيون حالة ضياع لجهة تقييم الواقع السوري، استناداً إلى تهافت في السرديات اللبنانية التاريخية، بين من ينظر إلى سوريا كـ"غول" كبير يريد أن ينقض على هذا اللبنان، وبين من كان ينظر إلى سوريا بوصفها قوة ارتكاز يتم الاستناد عليها لتعزيز الوضعية السياسية في الداخل اللبناني. وما بين الوجهتين يمكن الاستناد إلى الكثير من التهافت في السرديات التاريخية. تهافت لا يزال قائماً إلى اليوم.
تهافت السردياتمن أكثر الأمثلة الحالية على تهافت السرديات، هو استدعاء التدخل السوري في الشؤون اللبنانية بعد أيام على سقوط نظام الأسد، في حينها شُنّت حملة ممنهجة داخل لبنان بأن أحمد الشرع يتدخل بالسياسة اللبنانية من خلال إعلانه دعم ترشيح قائد الجيش جوزاف عون. لتبرز سردية جديدة تناقض ما سلفها وهي تصوير متعمّد لوجود أطماع سورية في لبنان وأن هناك هجمات من قبل مجموعات تابعة للثورة أو لهيئة تحرير الشام بشنّ هجمات باتجاه القرى البقاعية على الحدود السورية وأن هؤلاء يستهدفون الجيش. يتجلى في السياق تهافت السردية وتناقضها، من التدخل في دعم قائد الجيش، إلى الدخول في مواجهة مع هذا الجيش نفسه. علماً أن ما جرى هو اشتباك وقع بين الجيش ومجموعات مهربين ليس لهم علاقة بهيئة تحرير الشام، وما يقوله السوريون في هذا الصدد إنهم حريصون على عدم إعادة أيام الماضي مع لبنان. فضبط الاشتباك الذي حصل في سرغايا جاء بنتيجة تدخل الشرع شخصياً، وضرب مجموعات المهربين وتأكيده للمسؤولين اللبنانيين بأنه حريص على استقرار الحدود اللبنانية السورية. وهو لديه قلق كبير من فئة أساسية يعتبر أنها تريد التدخل في سوريا بأي لحظة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
حزب الله في حمصصحيح أن القرار "الأمني السوري" في منع دخول اللبنانيين هو قرار ينطوي على جانب انفعالي، أو يحتوي على ردّة فعل تُضم إلى جانب انتقامي أو تحت عنوان المعاملة بالمثل. فالشروط التي جرى توزيعها للدخول إلى سوريا هي شروط مشابهة تماماً للتي فرضها لبنان سابقاً على السوريين، ومعلوم حجم المعاناة التي عاشها السوريون مع بعض اللبنانيين دولة ومجتمعاً وما احتوت من نزعات تفوقية أو عنصرية أو محاولات للاستقواء على من هم ضعفاء ولم يكن لهم أي ملاذ سوى الملاذ اللبناني. لكن هذا القرار السوري، له ارتباط أساسي بجوانب أمنية يتم إخفاؤها أو تجهيلها عمداً. ولحسن قراءتها، لا بد من العودة إلى الحملة الأمنية التي أطلقتها الأجهزة السورية في مدينة حمص، حيث اكتشف عناصر هيئة تحرير الشام مجموعة من عناصر حزب الله، وأجروا تحقيقات حول حقيقة وجود مجموعات الحزب هناك، وإذا ما بقيوا هناك منذ ما قبل سقوط نظام الأسد، أم أنهم دخلوا إلى تلك المنطقة الاستراتيجية والقريبة من الحدود اللبنانية، ما بعد سقوط النظام وبالاستفادة من حالة عدم ضبط المعابر الحدودية.
هذا أحد الجوانب الأساسية والمغيبة التي دفعت بالسوريين إلى اتخاذ هذا القرار الأمني، بالإضافة إلى أسباب أخرى أبرزها ما يلمسه السوريون من استمرار لبناني في "التعالي" على السلطة الجديدة، وعدم استسهال التعاون معها. يبدو كأن هناك من لا يزال غير مصدّق أن من كان ينظر إليهم كفصائل إرهابية منبوذة هم أنفسهم الذين أصبحوا يحكمون سوريا، وهناك اضطرار للتعامل معهم. وما تأخرت فيه الدولة اللبنانية، كانت جهات عديدة قد سلكته سابقاً، وليس المقصود هنا زيارة وليد جنبلاط أو بعض المؤيدين للثورة السورية، بل حزب الله بالتحديد من خلال قنوات عديدة لمعالجة الكثير من الملفات العالقة وضمنها معالجة مسألة وجود عناصر للحزب لا زالوا في سوريا مع السعي لتأمين انتقالهم بشكل آمن إلى لبنان.
ثمة أسباب أمنية أخرى تدفع إلى التشدد الأمني ومن الجانبين أيضاً وليس فقط من الجانب السوري. معلوم أنه في الأيام الأولى لسقوط النظام وما تلاها، رميت كميات هائلة من الأسلحة وقد بلغ سعر "الكلاشنيكوف" 20 دولاراً في سوريا، ما دفع بمجموعات لبنانية للقيام بغزوات باتجاه السوق السوري ونقل الأسلحة إلى لبنان وإغراقه بالسلاح. ولا ينفصل ذلك أيضاً عن مسألة الحاجة إلى مواجهة الكثير من عصابات التهريب على الحدود اللبنانية السورية والتي كان عملها ناشطاً طوال الفترة الماضية؛ أما اليوم فهي تواجه صعوبات، أساسها عدم الاعتراف بما جرى والدخول في اشتباكات يومية مع هيئة تحرير الشام. هذا المشروع لا يرتبط بالتهريب فقط بل له أبعاد أكثر أهمية إذ تتداخل فيه عوامل كثيرة من قبل الساعين إلى إعادة تخريب الوضع على الأرض في سوريا، من خلال افتعال إشكالات حدودية مع دول الجوار، بما فيها لبنان، الأردن، العراق، وتركيا، أو من خلال افتعال إشكالات ذات بعد طائفي ومذهبي أو قومي في الداخل السوري. مصلحة لبنان وسوريا في التكامل الاقتصادي والمالي على قاعدة العلاقة الندية بين دولتين مكتملتي الأركان تحترمان سيادة بعضهما البعض.