لا يمكن النظر إلى الدور الذي تلعبه الصناعات الحرفيّة، في إطار أي اقتصاد وطني، وفق المقاربة التقليديّة فقط، التي تركّز على حجم القطاع، أو مساهمته في الناتج المحلّي، أو القيمة المُضافة الإجماليّة التي يولّدها. الصناعة الحرفيّة في أي بلد، هي إحدى الأنشطة الأكثر تعبيرًا عن الإرث الثقافي والفنّي والاجتماعي، التي غالبًا ما تتوارثها الأسر والأحياء الشعبيّة والقرى عبر الأجيال، لتصبح جزءًا من الهويّة الوطنيّة والحضاريّة للبلاد نفسها. القيمة الثقافيّة والاجتماعيّة لهذا القطاع، تتخطّى برمزيّتها ومكانتها القيمة الماديّة وحدها، وخصوصًا حين يتداخل النشاط الحرفي بشكلٍ عميق بالأنشطة السياحيّة والفندقيّة، وحين تعطي الحِرف الأمكنة والمناطق طابعها الخاص والجذّاب.
ثمّة خصوصيّة اجتماعيّة أخرى لا يمكن تجاهلها في هذا القطاع، الذي يُعتبر -تمامًا كحال القطاع الزراعي أو السياحة الريفيّة- أحد القطاعات الأكثر إسهامًا في الحفاظ على تماسك النسيج الاجتماعي الريفي، وفي سائر المناطق المُدنيّة خارج العاصمة. وهو، بوصفه مساهمة صناعيّة إنتاجيّة في الاقتصاد الوطني، يُعتبر أحد القطاعات المولّدة لفرص العمل، والمُساهمة في خفض معدلات البطالة والحدّ من نسب الهجرة نحو العاصمة. الدور الأساس هنا لا يقتصر فقط على توليد الدخل لهذه الفئة الاجتماعيّة، بل يشمل توليده في المناطق، ما يعني لجم ظاهرة التكدّس في أحزمة البؤس المحيطة بالمدن. لكن في الوقت نفسه، يمكن القول أن الفئة العاملة في هذا القطاع تُعد إحدى أكثر الشرائح الاجتماعيّة هشاشةً، بسبب افتقار القطاع لبرامج الدعم، وافتقار العاملين في مؤسّساته لشبكات الحماية الاجتماعيّة.
واقع القطاع خلال السنوات الماضيةوفقًا لأرقام منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعيّة، تُسهم الصناعات الثقافيّة والإبداعيّة بما يقارب الـ 5% من الناتج المحلّي الإجمالي اللبناني، كما تُعتبر مسؤولة عن توظيف 4.5% من اليد العاملة الوطنيّة. غير أنّ هذه المقاربة الاقتصاديّة التقليديّة لقياس أهميّة القطاع ودوره، لا تعبّر عن البُعد المعنوي وغير المادّي لدور النشاط الحرفي، وخصوصًا على مستوى الدور التراثي والثقافي. كما لا تُعبّر هذه المقاربة الماديّة عن قيمة الإبداع والمهارات والخبرات، التي يتم توارثها عائليًا في المناطق، والتي تشكّل خصوصيّة يصعب تعويضها في حال خسارتها.
بحسب مسح تقرير "إظهار القيمة الاقتصاديّة لقطاع الحِرف للبنان"، الذي عملت عليه جمعيّة "نحن"، تركّز 14.7% من النشاط الحرفي في لبنان في منطقة الجنوب، بينما بلغت هذه النسبة حدود الـ 21.7% في مناطق زحلة وبعلبك والبقاع بشكلٍ عام. وبهذا المعنى، يمكن القول أنّ 36.4% من النشاط الحرفي اللبناني تركّز في مناطق طالتها بشكلٍ مكثّف الاعتداءات الإسرائيليّة الأخيرة، أو شهدت تهجيرًا واسع النطاق بفعل الحرب.
وفي ما يتعلّق بنوع العمل، تركّز عمل 37.27% من الحرفيين العاملين لحسابهم في مجال المنسوجات، يليهم مجال الخشب بنسبة 24.15%، ثم العمالة اليدويّة بنسبة 19.69%، والأشغال الإبداعيّة بنسبة 15.49%، ثم الذهب والمجوهرات بنسبة 3.41%. في حالة جنوب لبنان، تركّز أكثر من نصف النشاط الحرفي في مجال المنسوجات، بينما تركّز ثلاث أرباع النشاط الحرفي في المجال نفسه في منطقتي بعلبك وزحلة.
وتجدر الإشارة إلى انّ 88.81% من العاملين في هذا القطاع يعملون لحسابهم الخاص، وهو ما يدل على أنّ هذه الفئة تعتمد في دخلها على نشاطها اليومي، من خلال المؤسّسات الصغيرة والمتوسّطة الحجم التي تعمل بها، والتي غالبًا ما تعبّر عن نشاط عائلي تاريخي. وهذه السمة، تعطي القطاع طابعًا هشًا على المستوى الاجتماعي، خلال فترات الحروب والنزوح والشلل الاقتصادي الناتج عن الظروف الطارئة. وتشير الأرقام أيضًا إلى أنّ قرابة الـ 39.39% من حجم القوّة العاملة في القطاع تنتمي إلى فئة الشباب (بين 19 و37 سنة).
القيمة التاريخيّة لهذا القطاع، تبرز من خلال الأرقام المتعلّقة بخبرة العاملين فيه. فعلى سبيل المثال، يعود تاريخ بدء العمل لنحو 35.2% من العاملين في القطاع لأكثر من 20 سنة، بينما يعود هذا التاريخ لأكثر من 11 سنة بالنسبة لـ 52.5% من العاملين في القطاع. نحو 32.4% من العاملين في المجال توارثوا الحرفة عن أسرهم، التي عملت في المجال نفسه، بينما تلعب "الميزات التاريخيّة" دورًا في تميّز المناطق بنحو 43.1% من نشاط. هكذا، تشير الأرقام هنا بوضوح إلى ثروة ذات طابع تراثي وثقافي واجتماعي موروث، وهو ما لا يمكن قياسه بالمؤشّرات النقديّة والماليّة وحدها.
الأزمة الماليّة وغياب التخطيط
رغم امتلاك لبنان مقوّمات تنمية قطاع الصناعات الحرفيّة، عانى العاملون في هذا القطاع خلال السنوات الماضية من تراجع أنشطتهم الإنتاجيّة، بفعل مجموعة من العوامل التي ترتبط بالواقع الاقتصادي المحلّي وغياب التخطيط على المستوى الرسمي. الإشكاليّة الأولى التي عانى منها القطاع، تمامًا كحال جميع القطاعات الإنتاجيّة الأخرى، كانت غياب مصادر التمويل والتسهيلات التجاريّة، بفعل الأزمة الماليّة التي أصابت النظام المصرفي المحلّي. ومن المعلوم أنّ هذا النوع من التسهيلات يمثّل شرطًا لا يمكن تجاوزه، للتوسّع في أنشطة التصدير والتجارة الدوليّة. ومن هذه الزاوية بالتحديد، يمكن فهم حقيقة عدم قدرة 65% من المؤسّسات الناشطة في القطاع على تصدير إنتاجها.
الإشكاليّة الثانية، ارتبطت خلال الفترة الماضية بعدم توفّر خطط رسميّة متقدّمة لحماية القطاع، عبر تنظيمه وتصنيف منتاجته وتوثيقها ومراقبة المنافسة في السوق. مع الإشارة إلى أنّ أهم مقوّمات حماية هذا القطاع يفترض أن يرتكز على حماية الملكيّة الفكريّة، لضمان المنافسة العادلة والحفاظ على معايير النوعيّة. مع الإشارة إلى أنّ القطاع يعاني أساسًا من غموض كبير في وضعيّته القانونيّة، بغياب أي معايير واضحة تصنّف المنتجات الحرفيّة من غيرها، وهو ما يُبقى المنتجين من دون أي حماية قانونيّة أو ثقافيّة.
وفي الوقت نفسه، غابت السياسات الحمائيّة، التي كان يفترض أن تحمي الإنتاج الحرفي المحلّي من المنافسة الخارجيّة، وخصوصًا تلك التي تشكّلها السلع الصناعيّة المستوردة المنخفضة الثمن، في مقابل الصناعات اليدويّة المحليّة. وهذا العامل، فتح أيضًا باب منافسة السلع الصناعيّة المزوّرة، التي تحاكي المنتجات اليدويّة الأعلى ثمنًا. وصعوبة ضبط المعابر الحدوديّة، وتفشّي التهريب عبرها خلال السنوات الماضيّة، سهّل هذه المهمّة.
وخلال الفترة الممتدة بين عامي 2020 و2022، عانت المؤسّسات الحرفيّة الصغيرة والمتوسّطة الحجم من تراجع النشاط السياحي، بفعل تداعيات تفشّي وباء كورونا وانفجار المرفأ. فعلى سبيل المثال، وبحسب أرقام وزارة السياحة، انخفض عدد السيّاح الزائرين إلى ما يقارب الـ 26.8 ألف زائر في آب 2020، مقارنة بـ 235.4 ألف زائر خلال الفترة المماثلة من العام السابقة. وعلى هذا النحو، تعرّض القطاع لانتكاسة كبيرة، نظرًا لاتصال نشاطه بالطلب الذي يؤمّنه النشاط الموسمي السياحة.
وخلال الفترة نفسها، كان القطاع يتعرّض للأزمات الناشئة عن ارتفاع كلفة الإنتاج محليًا، بفعل تدهور سعر صرف الليرة اللبنانيّة، ومن ثم رفع الدعم عن مصادر إنتاج الطاقة. كما عانى القطاع من تراجع معدّلات الاستهلاك المحلّي، وانخفاض الطلب من جانب المقيمين، بالتوازي مع التراجع القدرة على التصدير كما ذكرنا سابقًا. هكذا، تقاطعت جميع هذه العوامل مع واقع شح الرساميل القادرة على إنعاش القطاع، وتراجع اهتمام الشباب بالعمل في هذا القطاع، وخسارة العاملين في القطاع للمدخرات والسيولة الموجودة في المصارف.
وفي مقابل هذه التحديات الكبرى، لم تتمكّن الأطر النقابيّة الموجودة أصلًا من إعلاء الصوت والتفاوض مع الجهات المعنيّة على إجراءات إنقاذيّة جديّة، بفعل تراجع اهتمام المنتجين بالعمل النقابي والأطر التمثيليّة. وخلال السنوات نفسها، كان المنتجون قد فقدوا أطر الدعم التي وفّرها مصرف لبنان سابقًا للمؤسّسات الصناعيّة، من خلال القروض المدعومة، وهو ما أنهى آخر قنوات المساندة الرسميّة للقطاع.
تداعيات الحرب
بغياب التصنيف القانوني الواضح، الذي ينظّم عمل المؤسّسات الحرفيّة، يصعب العثور على فرز في الإحصاءات الرسميّة، لتبيان حجم أضرار القطاع الماديّة في جنوب لبنان والضاحية ومنطقة البقاع، على النشاط الحرفي وحده. لكنّ بشكل عام، تشير التقديرات إلى أنّ القطاع الصناعي، الذي يدخل الإنتاج الحرفي من ضمنه، تعرّض إلى انكماش تقارب نسبته الـ 50%، مع خسائر يناهز حجمها الـ 3 مليار دولار أميركي.
الأضرار الماديّة في مجال الصناعات الحرفيّة، تشمل الدمار الذي تعرّضت له كبرى مناطق الجنوب والضاحية التي تستوعب هذا النوع من الأنشطة، كحال منطقة الخيام ومحيطها التي ضمّت تاريخيًا أنشطة صناعة الأثاث والمصنوعات الخشبيّة، أو المناطق الصناعيّة في النبطيّة وكفررمان وبنت جبيل.
في تلك المناطق، ثمّة دورة اقتصاديّة كاملة خرجت من الخدمة، وخرجت معها الصناعات الحرفيّة من منظومة الإنتاج. وهذا ينطبق أيضًا على بعض أحياء الغبيري والسان تيريز في الضاحية الجنوبيّة، التي ضمّت تاريخيًا صناعات الإكسسوار المنزلي والأحذية والجلود والتطريز والخياطة وغيرها. وتشير بعض التقديرات إلى أنّ الحركة الاقتصاديّة في الضاحية الجنوبيّة، بما في ذلك هذا النوع من الأنشطة الصناعيّة، لم تستعد نصف حجمها بعد الحرب، حتّى بالنسبة للمؤسّسات التي لم تتعرّض إلى أضرار ماديّة مباشرة.
مدير جمعيّة "نحن" محمد أيوّب يشير في حديث مع "المدن" إلى أنّ أضرار الحرب تتجاوز اليوم الجانب المتعلّق بالأضرار الماديّة فقط. فعلى سبيل المثال، لم يتمكّن المنتجون الحرفيون في طرابلس وبرج حمّود، وهي مناطق لم يشملها التصعيد العسكري الواسع النطاق، من تحقيق معدلات مبيع جيّدة في أحد المعارض التي جرى تنظيمها مؤخرًا بدعم من الجمعيّة، بفعل أزمة تراجع الطلب التي تطال السوق بأسره. بهذا المعنى، القطاع بأسره يعاني حاليًا من تراجع الأقبال في مرحلة ما بعد الحرب، بمعزل عن أماكن نشاط المؤسّسات.
أيّوب يلفت إلى أنّ أسباب انكماش المبيع تتقاطع ما بين تداعيات الحرب، وبعض العوامل الموجودة أساسًا في السوق، مثل دخول البضائع المقلّدة من الخارج، التي تنافس الصناعات اليدويّة، وغياب الحماية الرسميّة لهذا القطاع. والدولة لم تبادر أساسًا إلى تخصيص مساحات بيع لدعم المنتج المحلّي، في المطار أو الأماكن الأثريّة والتراثيّة. بل على العكس تمامًا، يُسمح بدخول السلع الصناعيّة المستوردة والمقلّدة التي تنافس المنتج الحرفي المحلّي.
وعن ربط نشاط القطاع الحرفي بالنشاط السياحي، يتحدّث أيوب عن وجود عدّة مقاربات للمسألة. إذ بينما يرى البعض ضرورة هذا الربط، عبر مواءمة أنشطة الصناعة الحرفيّة مع الذوق السياحي حصرًا، تتعامل الدولة مع المنتجين الحرفيين كفئة "مهمّشة" تحت وصاية وزارة الشؤون الاجتماعيّة، للحصول على دعم خارجي ومساعدات بإسم الحرفيين. أمّا أيّوب، فيرى ضرورة صياغة مقاربة مختلفة تمامًا عن النظرتين، عبر التعامل مع النشاط الحرفي كحلقة ضمن سلسلة توريد ومنظومة اقتصاديّة متكاملة، بما يحقق استدامة هذا القطاع وحمايته في المستقبل.
في خلاصة الأمر، سيكون على الدولة اللبنانيّة التعاطي مع تبعات الحرب الأخيرة بنظرة أكثر شموليّة، بما يتخطّى إحصاء الأضرار الماديّة وحدها. إذ هناك حاجة لسياسات اقتصاديّة وتنمويّة، لإعادة إنعاش جميع القطاعات الاقتصاديّة التي تضرّرت من الحرب الأخيرة، بعدما تضرّرت سابقًا من غياب الرؤى والخطط الاقتصاديّة المتوازنة. وهذه السياسات، يفترض أن تشمل طبعًا استعادة النشاط الحرفي في جنوب لبنان والضاحية والبقاع، وإعادة إنعاش الدورة الاقتصاديّة المتعلّقة به في عموم الأراضي اللبنانيّة، عبر خطوات تبدأ بالحماية والتنظيم ووضع المعايير لتحديد المنتجات الحرفيّة، وتنتهي بتأمين أدوات الدعم المالي والقروض المدعومة والتسهيلات الموجّهة لتحفيز التجارة الخارجيّة.