تنبهت صحف أجنبية الى أن المرء عندما يفكر في الرئيس الأميركي الراحل جيمي كارتر (1 تشرين الأول 1924 - 29 كانون الأول 2024)، مُزارع الفول السوداني السابق، وضابط البحرية، قد لا يكون الروك أند رول أول ما يتبادر إلى الذهن والعقل. لكن الرئيس التاسع والثلاثين للولايات المتحدة، كان من كبار محبي الموسيقى الجاز والإنجيل والفولكلور والسول والبوب والروك والشعر، واستخدمها كوسيلة للتواصل مع الناخبين، وكان صديقًا شخصيًا للعديد من الموسيقيين، بما في ذلك بوب ديلان وبول سيمون وبونو وويلي نيلسون.ويشرح أحد مؤسسي فرقة Music Midtown، بيتر كونلون، وهو من المقربين من كارتر: "في السابق، كان الاعتقاد السائد هو أن الجمع بين السياسيين وموسيقى الروك آند رول، ينطوي على مخاطر كبيرة: لا يمكنك أن تكون بالقرب من هذا الرجل. فهو يتعاطى المخدرات. لكن كارتر كان متقبلاً للغاية للناس ونقاط ضعفهم".
فخلال وجوده في جورجيا، طوّر كارتر علاقته مع أيقونات الروك الجنوبيين، أعضاء فرقة آلمان براذرز. وقد أقاموا حفلات موسيقية خيرية لحملات كارتر السياسية، لكن قبل ذلك كان كارتر قد ناقش كلمات أغانيهم معهم. وفي العقود التي تلت مغادرة جيمي كارتر للبيت الأبيض، كان هناك العديد من عمليات إعادة النظر في إرث الرئيس السابق. ومن بين أكثر هذه العمليات غير المتوقعة فيلم "جيمي كارتر: رئيس الروك آند رول"، وهو فيلم وثائقي عرض العام 2020، ويروي علاقة كارتر التي تم تجاهلها، ليس فقط مع موسيقى الروك آند رول، لكن أيضًا مع الريف والجاز والفولك وأنواع أخرى من الموسيقى. وجزء من حجة الفيلم هو أن كارتر غيّر العلاقة بين موسيقى الروك آند رول والسلطة السياسية. الدور المهم والمثير للدهشة الذي لعبته الموسيقى في حياة أحد أكثر الرؤساء غموضاً في التاريخ الأميركي، هو موضوع الفيلم الذي أخرجته ماري وارتون، وكتب له السيناريو بيل فلاناغان. وجاء فيه أن كارتر ربما لم يكن ليصل إلى البيت الأبيض لولا زجاجة الويسكي وزيارات الموسيقي غريغ ألمان له في آخر الليل. وقال كارتر في بيان، إنّ "الفيلم يجسد بدقة حبي للموسيقى والأهمية التي لعبتها في حياتي الشخصية والمهنية. ما زلت متفائلاً، وأعتقد أن الموسيقى يمكن أن تخدمنا كأمة". ويتحدث الرئيس السابق عن الدور المركزي للموسيقى في الحياة الأميركية، وعن الموسيقى الدينية، وكيف ربطته بالمجتمع الأميركي الأفريقي، وكيف ساعدت موسيقى الكنيسة في ولادة موسيقى "الروك أند رول".بوب ديلان
صداقة كارتر الوثيقة مع بوب ديلان، وتقديره العميق لموسيقاه، أبرز ما يميز الفيلم. يقول تشيب، نجل كارتر، إن والده كان يحفظ أغاني ديلان عن ظهر قلب ويستشهد بكلماتها في أحاديثه.وفي العام 1974، حضرت عائلة كارتر حفلة ديلان في أتلانتا، ودعت الموسيقي المتمرّد إلى قصر الحاكم لحضور حفلة بعد الحفلة. وصف كارتر ديلان بأنه "خجول بشكل مؤلم"، وحتى ديلان قال إنه شعر "بالقلق" في البداية. لكن الاثنين أصبحا قريبين في النهاية، خصوصاً خلال محادثة حول إيمان كارتر المسيحي المعمداني. قال كونلون، مقدمًا نظرية حول سبب صداقة كارتر مع العديد منهم: "ينجذب الموسيقيون إلى روحانيته وأصالته"..."إنه عميق الروح ومنفتح الذهن. لا يحكم على الناس. ألن يكون ذلك لطيفاً، في البيئة السياسية الحالية؟"
اكتسبت صداقة كارتر الشهيرة مع المغني الريفي الأسطوري، ويلي نيلسون، مستوى من الشهرة، عندما كتب نيلسون العام 1988 سيرته الذاتية، ذكر أنه كان يدخن سيجارة ماريغوانا مع خادم البيت الأبيض على سطح المقر الرئاسي. ظل كارتر ونيلسون صديقين لعقود من الزمن، وعندما فاز كارتر بجائزة نوبل للسلام العام 2002، دعا نيلسون للغناء في أوروبا خلال الحفلة.لم تكن لدى كارتر شهرة وطنية كبيرة أو دعم سياسي كبير، خلال حملته الانتخابية التمهيدية التي كانت مستبعدة في العام 1976، لكن فرقة آلمان براذرز ساعدت في لفت الانتباه إليه من خلال الحفلات الموسيقية الخيرية. قال كارتر: "ساعدني فريق آلمان براذرز في الوصول إلى البيت الأبيض من خلال جمع الأموال عندما لم تكن لدي أي أموال". وكان بول سيمون أحد الموسيقيين المفضلين لدى كارتر، وقد دعاه كارتر للغناء في حفل تنصيبه الرئاسي العام 1977، وفقًا للفيلم الوثائقي.
تولستوي
عدا الروك، ثمة كتب تتحول في أروقة السياسيين، إلى أيقونات. وقال كارتر في أكثر من مقابلة إن كتاب "دعنا الآن نثني على الرجال الشهيرين"، للكاتبين جميس آغي ووالكر إيفانس، له تأثير كبير في حياته، مشيراً إلى أن ما يدهشه في الكتاب هو وجود هوة هائلة في أميركا، بين من يمتلك كل شيء من البيت إلى السيارة والتعليم والوظيفة، وبين من لا يمتلك أي شيء. ويعتبر هذا الكتاب من أهم الكتب التي تصور الحياة الأميركية في أوائل القرن العشرين، ويرسم صورة حية عن حياة المزارعين الفقراء في الجنوب خلال الكساد الكبير. ولقي هذا الكتاب استحساناً من قبل النقاد عندما نشر في العام 1941، كما اعتبرته المكتبة العامة في نيويورك من أكثر الكتب تأثيراً في القرن العشرين. ويقول كارتر، إن هذا الكتاب يعنيه كثيراً، نظراً لأنه ولد وترعرع في مزرعة للفول السوداني في جورجيا، لم تصله الكهرباء أو الخدمات. وكتب كارتر في مذكراته المعنونة "الحفاظ على الإيمان: مذكرات رئيس"، أن ثلاث نساء أثَّرن في حياته: والدته ليليان، وزوجته روزلين، ومعلّمته جوليا كولمان، التي كانت تدرّسه في مدرسة بلين الثانوية (حيث ولد وترعرع). وأوضح كارتر أن كولمان شجعته على قراءة كتب التاريخ والأدب: "شجعتني على قراءة كتاب الحرب والسِّلم، للروائي الروسي ليو تولستوي. ظننت، في البداية أن الكتاب عن الحرب والسلام في الدنيا الجديدة، وأن أبطاله رعاة بقر وهنود حمر". واستعان كارتر برواية "الحرب والسِّلم" في حكمه، واقتنع بفضله أنّ الأحداث الكبرى لا يتحكم فيها الزعماء، إنما الجماهير وعامة الناس الذين يحددون مصير العالم وفقًا لآمالهم وأحلامهم. واللافت أن طيف رواية تولستوي حاضر بقوة في أروقة البيت الأبيض، وكان ريتشارد نيكسون، الذي أشار في مذكراته إلى أنه قرأ كتب تولستوي بصورة مكثفة خلال فترة شبابه، ووصف نفسه بأنه من أتباع تولستوي، يبحث دومًا عن الكتب التي لها علاقة بالقضايا الكبرى في حياته اليومية.
(كارتر مع ويلي نيلسون)
بالإضافة إلى كونه سياسيًا ومهندسًا وضابطًا بحريًا ورجل أعمال وصانع أثاث ومتسلق جبال وعدّاء، فقد كتب العديد من الكتب حول مجموعة واسعة من الموضوعات. فعندما كان طالبًا في مدرسة بلينز في جورجيا، طلبت منه معلمته جوليا كولمان أن يحفظ قصائد شهيرة ويكتب شعرًا من تأليفه. وكانت "السيدة جوليا"، كما كان الطلاب يلقبونها، هي التي منحته أول تجربة حقيقية مع الشعر.لم تقتصر قراءة كارتر للشعر على أيام الدراسة. ففي شبابه كان يقرأ الشعر من أجل المتعة أيضًا، بل إنه خاض تجربة كتابة الشعر. وكما وصف في مقابلة في عدد ربيع/صيف 1994 من مجلة "نيو أورليانز ريفيو"، فقد كتب بعض القصائد عندما كان تلميذاً في المدرسة، وضابطاً بحرياً، ورسائل حب إلى روزالين-زوجته المستقبلية، لكنه لم يحتفظ بتلك القصائد.وكما اتسمت بداية رئاسة كارتر بالشعر، كذلك كانت نهايتها. ففي الثالث من يناير/كانون الثاني 1980، نظم البيت الأبيض تجمعًا كبيرًا للشعراء، بعنوان "تحية للشعر والشعراء الأميركيين". وحضر التجمع مئات الشعراء، ومنهم المستشار السابق في الشعر روبرت هايدن. وساعد كارتر في وضع اللمسات الأخيرة على لائحة تضم 21 شاعراً مشاركاً في الحدث، ومن بينهم المستشارة في الشعر غويندولين بروكس وشاعرة البلاط الأميركي المستقبلية لويز غلوك.
(غويندولين بروكس)لم يبدأ كارتر كتابة الشعر بجدية أكبر والتفكير في نشر مجموعة من قصائده، إلا في أوائل التسعينيات. في مقابلة أجريت في 7 كانون الأول 2003، مع ديفيد كرونكي في "لوس أنجليس ديلي نيوز"، قال كارتر: "قبل عشر سنوات، أردت أن أكتب كتاباً من القصائد. اقتربت ببعض الجرأة من اثنين من الشعراء المتميزين في جامعة أركنساس، أخذاني تحت جناحيهام، وتلقيت ما يعادل دورة الدراسات العليا في الشعر". كان الشاعران المعنيان هما ميلر ويليامز وجيمس وايتهايد، وكانا بمثابة مرشدَين لكارتر في كتابة الشعر. وكان من أشد المعجبين بالشاعر ديلان توماس، وشعره غالباً ما كان يأتي مباشرة من حياته الخاصة. كتب قصائد عن والدته "الآنسة ليليان ترى الجذام لأول مرة"، وعن المرأة التي ساعدت في تربيته "راشيل"، وعن والده تحت عنوان "أردت أن أشارك عالم والدي"، كما عن زوجته "روزالين".