ليس من قبيل المصادفة أن يتصاعد الحديث في العراق بشكل كبير عن موضوع حصر السلاح بيد الدولة، تزامناً مع التغيير الذي شهدته سوريا.
الحديث بشأن هذا الموضوع ليس جديداً. لكن إعادة طرحه في هذا التوقيت يحمل أكثر من دلالة في ظل ما تشهده المنطقة من متغيرات يعتقد كثيرون في العراق أن رياحها التي وصلت سوريا، بدأت بوصلتها تتجه صوب العراق.
الحديث عن حصر السلاح بيد الدولة يعني الحديث بشكل رئيسي عن سلاح الفصائل المسلحة العراقية المقربة من إيران التي تطلق على نفسها إسم "فصائل المقاومة الإسلامية"، والتي لعبت دوراً مهما في الحرب على غزة. هذا الدور أزعج قوى كثيرة مثل الولايات المتحدة وقوى إقليمية آخرى، ترى في هذه الفصائل ذراهاً لإيران القوية في المنطقة، وتعتبر أجنداتها تهديداً لها ولمصالحها.
ورغم أن بغداد أدانت الحرب في غزة ودعت إلى وقفها بشتى الطرق، الا أن مشاركة الفصائل وما لعبته من دور في استهداف مصالح أميركية في المنطقة، وإسرائيلية داخل العمق الفلسطيني، تسبب بحرج كبير لحكومة بغداد التي حاولت بشتى الطرق ضبط الإيقاع لتجنيب الداخل العراقي ارتدادات الحرب التي أحدثها طوفان الأقصى.
لا يقف الأمر عند هذا الحد، فهناك من يعتقد أن الحديث الذي عنوانه حصر السلاح بيد الدولة، يجب أن لا يقف عند حدود سلاح فصائل المقاومة فحسب، بل يجب أن يتعداه ليشمل الحشد الشعبي. وهو حديث ترفضه جملة وتفصيلاً، القوى السياسية الشيعية التي يتشكل منها الإطار التنسيقي، وهي المظلة السياسية والبرلمانية لحكومة الحالية.
حدة النقاشات أنتجت فريقين متضادين. طرف مؤيد وآخر معارض.
يعتقد الطرف الأول أنه بات لزاماً بل وحتمياً على الحكومة العراقية استباق الاحداث وحسم هذا الامر نهائياً، تحسباً لما قد تفرزه التطورات الحالية التي تشهدها المنطقة من استحقاقات وارتدادات على الوضع الداخلي العراقي. هذه الارتدادات ستكون أيضا بمثابة رد فعل للدور البارز الذي لعبته هذه الفصائل في حرب غزة، وهي ارتدادات يعتقد مؤيدو هذا الرلي أن العراق قد يدفع ثمنها غالياً.
وهناك رأي سائد بأن هذه الاستحقاقات ستكون جزءاً من مسارات ما بات يُعرف بالشرق الأوسط الجديد، والذي بات الحديث عنه الشغل الشاغل لكثيرين يعتقدون أنه سيساهم في إعادة رسم صورة المنطقة لمرحلة ما بعد طوفان الأقصى.
أصحاب هذا الراي يعارضون وجود هذه القوى المسلحة من الأساس في المشهد العراقي، ويطلقون عليها وصف قوى اللادولة. ويعتقدون ان تواجدها أضعف العراق كدولة كان يمكن أن تلعب دوراً محورياً وإيجابياً كوسيط موثوق به في ما تشهده المنطقة من تطورات وأحداث، من خلال تبنيها مواقف تقترب من إيران وتبتعد عن المصلحة أو الموقف الرسمي العراقي.
ويذهب أصحاب هذا الرأي إلى أبعد من ذلك، حيث يرون ان حسم هذا الملف يمكن أن يكون مقدمة لإحداث تغييراً في المسار السياسي العراقي، بما يساعد في إصلاح العملية السياسية قبل أن يتم فرضه بالقوة من الخارج.
على الطرف الآخر، يرى فريق سياسي، خصوصاً قوى سياسية من داخل الاطار التنسيقي الذي يضم كل القوى السياسية الشيعية باستثناء التيار الصدري، أن الغاية من طرح هذه الموضوع هو استهداف لمصادر القوة في العراق وبالتالي إضعاف السلطة التي يهيمن عليها الشيعة.
هذا الفريق يعتقد أن الغاية من سلاح المقاومة هو لمواجهة ما يسمونه "الاحتلال الأميركي" للعراق، وأن هذه الفصائل ستقوم بحلّ نفسها عندما ينتهي التواجد العسكري الأميركي في البلاد.
عبّر مؤيدو هذا الطرح أول الأمر عن رفضهم الحديث بموضوع حل سلاح الفصائل، لكن موقفهم هذا بدأ يتغير، مع تصريحات لمسؤولين بارزين تحدثوا علانية أن هذا الأمر لم يعد شأناً داخلياً كما يحاول اصحاب الرأي المعارض وصفه، وأن قوى خارجية من بينها الولايات المتحدة، أوصلت رسائل لصانع القرار العراقي بضرورة حسم هذا الملف لتجنب وصفات الحل الخارجية والتي قد تكون مؤلمة.
موقف المرجعية الشيعية في النجف
مثّل موقف المرجع الشيعي في العراق علي السيستاني، في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، بعد لقائه ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في العراق، موقفاً بارزاً ومهماً في هذا المسار، عندما دعا، وهو صاحب الكلمة المسوعة شيعياً، إلى ضرورة حصر السلاح بيد الدولة. هذا الإعلان شجع مسؤولين بالدولة العراقية إلى الحديث علانية عما يجري.
أول المتحدثين عن هذا الموضوع كان مستشار رئيس الوزراء إبراهيم الصميدعي، الذي قال إن هذا الامر بات يمثل "اشتراطاً أميركياً وغربياً على الدولة العراقية".
الصميدعي وخلال حديثه قبل أيام في لقاء تلفزيوني، وجّه رسالة بدت حادة وحاسمة بعض الشيء لقادة هذه الفصائل دعاهم فيها "أن يعيدوا التفكير بموضوع حل فصائلهم والاندماج بالوضع السياسي، وإلا فإن الحل سيُفرض بالقوة من الخارج بشكل أو بأخر".
تصريحات الصميدعي أزعجت كثيرين وتسببت بردود فعل غاضبة، ليعلن الرجل بعدها بساعات استقالته من منصبه.
لكن ردود الفعل الغاضبة اختفت تماماً إزاء ما اعلنه رئيس البرلمان العراقي محمود المشهداني في لقاء تلفزيوني مؤخراً، حول أن الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب تحدث بهذا الامر هاتفيا مع رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني وأبلغه بضرورة العمل على حسم هذا الملف، بل أن ترامب، والحديث للمشهداني، وصف هذا الأمر بأنه "التزام" على الدولة العراقية بات واجب التنفيذ.
وكشف المشهداني أن هذا الموقف أنتج "توجهاً عاماً" للدولة العراقية بضرورة حسم هذا الملف.
الأخطر من هذا هو ما جاء على لسام زعيم تيار "الحكمة" وأحد قادة الاطار التنسيقي عمار الحكيم، الذي قال في منتدى بمحافظة النجف قبل يومين، إن ما بات مسموعاً من حديث الإدارة الأميركية الجديدة وموقفها من بعض قادة الفصائل قد يصل إلى حد استهدافهم.
الموقف الحكومي
وهكذا يبدو جلياً أن حسم هذا الملف لن يكون سهلاً أبداً. وسيتعين على السوداني اتخاذ خطوات ملموسة وحاسمة بهذا الشأن، وإلا فإن ما صدر من تحذيرات قد تكون تتحقق على أرض الواقع بالتزامن مع وصول الرئيس ترامب إلى المكتب البيضاوي في 10 كانون الثاني/يناير الجاري.
موقف السوداني لن يكون سهلاً لأنه سيتعين عليه عدم إغضاب قوى الاطار التنسيقي من جهة، والاستجابة بطريقة أو باخرى لضغوطات الداخل والخارج من جهة آخرى.
في هذا الإطار، قال مقربون إن السوداني الذي يستعد لبدء زيارة إلى إيران، سيبحث هذا الأمر في طهران. فإيران كما يعتقد كثيرون، صاحبة قول فصل في هذا الأمر.
ومع انتظار مخرجات هذا الملف، فإن السؤال الابرز هو: هل ستقف معادلة حصر السلاح بيد الدولة عند حدود فصائل المقاومة أم تمتد لتطال سلاح الحشد الشعبي؟