بإيحاء خطر، أراد العدو الإسرائيلي الدخول على خطّ الاستحقاقات السياسية والدستورية اللبنانية. ليست المرّة الأولى التي تحاول فيها تل أبيب فرض وقائع سياسية في لبنان بالضغط العسكري. وما كانت تريد فرضه خلال فترة الحرب البرية الموسعة، تعود إلى محاولة تكريسه حالياً من خلال فرض الشروط لآليات تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار، إما عبر تأخير عملية الانسحاب، أو عبر المزيد من التوغل وعمليات التفجير، وصولاً إلى ضرب أهداف في شمال نهر الليطاني. والأخطر من كل ذلك هو البيان الرسمي الذي أصدره جيش الاحتلال الإسرائيلي بعيد قصف مواقع لحزب الله في منطقة إقليم التفاح مساء الخميس، وقال فيه إن تل أبيب أخطرت الجيش اللبناني بوجود هذه المواقع وطلبت منه التحرك باتجاهها، وبعد عدم تجاوبه عملت هي على تنفيذ الضربات.
إنتاج الانقسامات
يؤشر هذا الحدث إلى الانتقال لمرحلة جديدة من الضغوط الإسرائيلية في لبنان. لا سيما أن تل أبيب تريد للجيش أن يكون في مواجهة حزب الله، وذلك في لحظة حساسة جداً ربطاً بالاستحقاق الرئاسي، وبوصف قائد الجيش جوزيف عون المرشح الأبرز بالنسبة إلى بعض القوى الإقليمية والدولية. وكأن إسرائيل تفرض شروطها على آلية عمل الجيش وقيادته تجاه الحزب لمرحلة ما بعد اتفاق وقف النار، وما بعد نهر الليطاني وليس حصراً في جنوبه. هذا التصرف الإسرائيلي سينتج انقسامات متعددة على الساحة اللبنانية في ترجمة المؤشرات، بين بعض المتريثين في إعلان تأييدهم لقائد الجيش، الذين يعتبرون أنه لا بد من التعاطي معهم من قبله بوضوح لشرح برنامجه، وكيفية تطبيق القرارات الدولية، ولا سيما إنهاء سلاح حزب الله والانتقال إلى مرحلة جديدة من بناء الدولة، وعدم العودة إلى أيام التسويات السابقة.. وبين بعض المعارضين لقائد الجيش، لا سيما الثنائي الشيعي، الذي يعتبر أن محاولة بعض القوى الدولية والإقليمية لفرض قائد الجيش رئيساً للجمهورية، الهدف منه تكريس "الانكسار" العسكري لحزب الله بانكسار سياسي جديد من خلال انتخاب عون. لا سيما أن بعض الأجواء الدولية تفيد بأن إسرائيل وأميركا لن ترضيا بأي تساهل مع حزب الله واحتفاظه بسلاحه، وأنه في حال لم يوافق الحزب على التسليم وتنفيذ الاتفاق، فإن إسرائيل هي التي ستتولى ذلك بدعم أميركي.
تعثر الرئاسة
تلك المعادلة الإسرائيلية والتي يُراد له أن تكون ترجمة لموازين قوى إقليمية ودولية، تحتوي على بعض الانسجام مع الولايات المتحدة الأميركية، قد تؤدي إلى تعثر مسار جلسة الانتخاب يوم التاسع من كانون الثاني، خصوصاً في حال اتجهت الكتل النيابية إلى الجلسة من دون التوافق على أي مرشح يمكنه الحصول على 65 صوتاً، بالإضافة إلى صعوبة تعديل الدستور أو توفير 86 صوتاً لقائد الجيش، طالما أن مواقف الكتل استمرّت على حالها، ولا سيما لدى الثنائي الشيعي والثنائي المسيحي. ذلك ما سيعزز الإنقسام أكثر بين توجهين في لبنان. طرف يريد فرض معادلة تؤدي إلى تغيير كل الوقائع والموازين السياسية، بما يتلاقى مع تطلعاته لتطورات الوضع في المنطقة، وخلاصتها "التعاطي" مع حزب الله وحلفائه بأنهم تلقوا هزيمة يجب تكريسها سياسياً. وطرف آخر يريد البحث في الحصول عن ضمانات -بالمعنى السياسي- من خلال إنتاج تسوية ينتخب بموجبها رئيس الجمهورية والحكومة، أو سيطالب حينها بضمانات دستورية. تغيير الوقائع والتوازناتفشل الجلسة في إنتاج رئيس، قد تدفع بالطرف المعارض لحزب الله نحو المطالبة بإجراء انتخابات نيابية مبكرة أو تأجيل انتخاب الرئيس إلى ما بعد موعد الانتخابات النيابية في ربيع العام 2025. مراهناً بذلك على تغيير نتائج الانتخابات وتوازنات المجلس النيابي. أما بالنسبة إلى الثنائي، فهو سيدعو إلى حوار بين مختلف المكونات، للبحث في كيفية إعادة انتاج تسوية ولكن هذه المرة ببحث معمق يتصل بطبيعة النظام السياسي وتركيبته وببعض التعديلات الدستورية، التي تتضمن ضمانات لطالما كان حزب الله أو الطائفة الشيعية يتجنبونها بفعل قوتهم السياسية والعسكرية. أما في لحظة البحث عن تغيير الوقائع والتوازنات، فالمقاربة ستتغير في حينها.
خلف كل هذه الحسابات، تتمترس القوى السياسية على اختلاف توجهاتها. جميعهم ينتظر ما يمكن أن يرد من إشارات خارجية، لا سيما أن الحركة الديبلوماسية قد تكثفت وستستمر بهذه الوتيرة من الآن وحتى موعد جلسة الانتخاب. خصوصاً أن مستشار وزير الخارجية السعودي للشؤون اللبنانية يزيد بن محمد بن فرحان يزور لبنان السبت للقاء مختلف المسؤولين، والمبعوث الأميركي آموس هوكشتاين يزور لبنان الاثنين، إضافة إلى الحركة التي يقوم بها السفير القطري في لبنان، ومن ضمنها لقاؤه مع رئيس مجلس النواب نبيه بري. ولم تكن بعيدة زيارة وزير الخارجية الفرنسي إلى برّي ولقاءات أخرى عقدها مع عدد من الكتل النيابية. ذلك لا ينفصل أيضاً عن زيارات عديدة أجراها مرشحون إلى الخارج. مما لا شك فيه أن ثمة خوفاً لبنانياً من عدم القدرة على الوصول إلى توافق ينجز الانتخابات الرئاسية، لأن ذلك سيدفع ليس فقط إلى الدخول في سجالات دستورية حول طبيعة النظام السياسي، بل قد يؤثر سلباً على مسار اتفاق وقف إطلاق النار، ويفتح الباب أمام المزيد من الرياح الخارجية، نظراً لما يعتبره البعض أن الحرب في المنطقة لم تنته، وسيكون لها المزيد من الانعكاسات على الساحة اللبنانية.