عادت إذاعة دمشق للبث يوم أمس، بعد توقفها منذ سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من كانون الأول/ديسمبر الماضي، وبدأت الإذاعة بثها بعبارتها الشهيرة: "هنا دمشق، إذاعة الجمهورية العربية السورية".وجاء في البيان الأول للبث، الذي قرأه المقدم الإذاعي معن الجمعات: "ها هو قد عاد زمن المجد وولى زمان الشؤم، وسنراه بردى يصفق بالرحيق السلسل وتؤوب الأطيار فتجدو على أطياف الغوطة أغنية الحرية والسلام. آن للشآم أن تفرح وللأناشيد أن تملأ جنباتها، يحق لنا اليوم أن نفرح ونبتهج بسقوط النظام البائد المجرم البائد".واختتم البيان بقصيدة للشاعر السوري نزار قباني جاء فيها: "يا شام يا شامة الدنيا ووردتها، يا من بحزنك أوجعت الأزاميلا، وددت لو زرعوني فيك مئذنة، أو علقوني على الأبواب قنديلا. يا شام إن كنت أخفي ما أكابده، فأجمل الحب حب بعد ما قيلا".وحملت عبارة "هنا دمشق"، التي بدأت فيها الإذاعة بثها الأول عند تأسيسها قبل نحو ثمانين عاماً، معاني عميقة للتعبير عن صمود الشعب السوري ورمزاً للهوية الوطنية السورية لعقود. وفي أوقات الأزمات الكبرى، مثل العدوان الثلاثي على مصر العام 1965، كانت "هنا دمشق" تنطلق لتعلن تضامن سوريا مع القضايا العربية، وأصبحت جزءاً من الذاكرة الجمعية للسوريين.وتأسست أول إذاعة سورية في 17 نيسان/ابريل1946، وافتتحت يوم الجلاء باحتفالات أقيمت بهذه المناسبة، واستمر البث ست ساعات متواصلة. واقتصر بث الإذاعة في البداية على المناسبات الوطنية والقومية، وكانت تابعة إدارياً إلى مديرية البريد والبرق والهاتف، وكان استديو البث غرفة في دائرة البريد. وبدأت أول فترة بث ثابتة في أول شهر رمضان بعد الجلاء، فبثت برامج رمضانية لمدة ساعتين متواصلتين يومياً طيلة الشهر الكريم.وفي الرابع من شباط/فبراير1947، انتقل مقرها إلى مبنى مستقل في شارع بغداد بدمشق، وهو أول مبنى خاص بها، وبقيت تابعة إداريً لمؤسسة البرق والبريد، وزادت ساعات بثها اليومية إلى 12 ساعة موزعة على فترتين، وكانت نشرات الأخبار تؤخذ عن النشرات الأجنبية، وتترجم إلى العربية ثم تذاع.روّاد الإذاعة الأوائلبدأت إذاعة دمشق إرسالها بصوت الأمير يحيى الشهابي، وعبارة "هنا دمشق"، لتكون ثاني إذاعة تأسست في الوطن العربي بعد "صوت العرب" من القاهرة.ومع بداية انطلاقتها، بدأت تظهر أولى الأعمال الإذاعية على يد الإعلامي ممتاز الركابي، بالتعاون مع عدد من الفنانين الشباب والهواة من خلال تمثيليات ساهم في تقديمها عدد من الفنانين منهم حكمت محسن وأنور البابا وتيسير السعدي وفهد كعيكاتي وهدى الشعراوي وعبلة الخوري، وتضمنت قصصاً حياتية متداولة وشخصيات مؤثرة، منها شخصية "أم كامل" التي مثلت نموذج المرأة الدمشقية المتمتعة بحلاوة حديثها وصوتها، وقام بدورها الفنان أنور البابا، عبر سلسلة تناولت العديد من القضايا الاجتماعية الناقدة والهادفة مثل "حكايا أم كامل"، و"صالون أم كامل"، و"أم كامل حول العالم"، من تأليف أنور البابا ومجموعة من الكتاب.وظهرت هدى شعراوي كأول صوت نسائي في الإذاعة عندما شاركت في بعض التمثيليات الإذاعية التي قدمت أعمالاً مميزة ومرتبطة بالأحداث التي تمر بها المنطقة العربية في ذلك الحين. وفي رواية أخرى، كان أول صوت نسائي انطلق من الإذاعة للمذيعة لعبلة أيوب الخوري التي انتسبت إلى إذاعة دمشق في بداياتها وعملت فيها تسع سنوات، ثم انتقلت إلى إذاعة لبنان في بيروت.
ولعبت الإذاعة دوراً ريادياً في المشهد الثقافي والفني السوري، حيث كانت المنصة الأولى التي قدمت الأصوات الموسيقية السورية والعربية للجمهور، وساهمت في إطلاق مسيرة العديد من الفنانين مثل صباح فخري وفيروز وأسمهان، وكانت محطة لعرض الأغاني التراثية والقصائد المغناة التي جسدت الهوية الثقافية للشعب السوري. كما دعمت الإذاعة الفنون المسرحية والدراما الإذاعية.وخلال فترة حكم الأسد الأب، أصبحت إذاعة دمشق منبراً رسمياً يستخدم لنشر سياسات النظام الحاكم وتعزيز الدعاية الرسمية وتصوير النظام كحامي الوطن. كما استخدمت كأداة لتشويه الحراك الشعبي ودعم النظام في عهد بشار الأسد، مثلها مثل باقي وسائل الإعلام الخاصة والعامة التي كانت تسيطر عليها أجهزة الأمن والمخابرات. وتبنت الإذاعة خطاباً أمنياً يصف الثورة بأنها "مؤامرة خارجية"، مما أدى إلى فقدانها لمصداقيتها لدى شريحة واسعة من الشعب السوري.وتسعى إذاعة دمشق اليوم، بعد سنوات من الانحياز الرسمي، إلى استعادة دورها كمنصة وطنية جامعة، ويعكس البيان الأول للبث الجديد رغبتها في أن تكون صوتاً للتجديد، بعيداً من الانحيازات التي ارتبطت بها في الماضي.وقال وزير الإعلام في الحكومة السورية الانتقالية، محمد يعقوب العمر، في اجتماع حضره عدد كبير من الإعلاميين في وقت سابق: "النظام السابق كان استبدادياً وقاد الإعلام بطريقة أمنية وعمل على تجسيد الرئيس. لكننا لا نريد أن نكمل هذا النهج. نتطلع لإعلام سوري حقيقي ومهني، يكون فيه شراكة حقيقية بين كوادر الثورة والسوريين ككل".