ارتبط الحديث عن النهوض بالوضع المالي في لبنان منذ وقوع الأزمة الاقتصادية في العام 2019، بإصلاحات جذرية وأساسية مطلوبة لتحقيق إنتاجية بالقطاع العام. فساهم دخول قانون الشراء العام حيز التنفيذ منذ آب 2022، في وضع معايير موحدة لعمليات الإستثمار بالمقدرات الإنتاجية لهذا القطاع، سلطت رقابة هيئته الضوء على تلزيمات مختلف المؤسسات. فخضعت الأخيرة مكرهة لقانون الشراء العام، وجاء ذلك في إطار سعيها لإرضاء المجتمع الدولي، الذي أقرن أي دعم مالي للبنان بوقف استنزاف مقدرات البلد في صفقات مشبوهة.
إلا أن التجربة حتى الآن لا يبدو أنها حققت أهدافها. لا بل اصطدمت الكثير من المحاولات الإصلاحية، بنزعة مستفحلة لدى السلطة السياسية والإدارية، تحاول إبقاء القديم على قدمه. ورصدت محاولاتها المتكررة للإلتفاف على قرارات الهيئات الرقابية وتوصياتها. وعلى رغم نجاح الأخيرة بتعطيل بعض "صفقات تمرير المصالح الخاصة"، فقد تطلب منها ذلك مواجهة عقلية سائدة تحاول الحفاظ على المكتسبات السابقة. وهذا ما عطل الكثير من ملفات التلزيمات، ومدد لآماد عقود منتهية الصلاحية، لينقل النقاش حولها من سنة 2024 إلى 2025.قطاع البريدلا يزال تلزيم قطاع البريد يتربع على عرش التلزيمات المؤجلة والعقود الممددة منذ العام 2023. ولم يعرف العام 2024 سوى مزيداً من المماطلة بإطلاق مزايدة رابعة أكد عليها ديوان المحاسبة مرتين، وأقرها مجلس الوزراء منذ أكثر من عام، من خلال قرار مدد أيضاً لعقد "ليبان بوست"، على أن تعمل الوزارة في هذه الأثناء على تعديل جداول أسعار الخدمات البريدية إلى حين إطلاق المزايدة التالية وتسلّم القطاع من قبل الملتزم الفائز.
وهكذا إذا، بعد ثلاث مزايدات جرت للقطاع من دون دراسة للسوق، وتعديل ثالثها دفتر الشروط بما يتلاءم مع مؤهلات تحالف شركتي ميريت إنفست ش. م. ل. اللبنانية وColis Privé France التي كان قد أعلن فوزها في مزايدة سابقة خلافا لدفتر الشروط، لم تضف وزارة الإتصالات تفصيلاً جديداً في سنة 2024، سوى مراوغتها في إطلاق عملية التلزيم الرابعة، بذريعة أن الأموال لا تتوفر لها لإجراء دراسات السوق المطلوبة. وبدا أداؤها غير منفصل عن مسار عام جعل "ليبان بوست" تحتكر الخدمة لأكثر من 25 سنة، عبر تمديدات متتالية لعقدها، ألحقت أضراراً كبيرة بخزينة الدولة. وذلك وسط غياب شرح واضح من قبل السلطات المعنية، حول السبب الذي يمنعها من تأسيس شركة مساهمة لبنانية، يكون موضوعها تأمين الخدمات البريدية. علما أن العقد الموقع مع ليبان بوست يحمل مندرجات تحقيق ذلك ما إن تنتهي مدته.الميكانيكملف آخر يمر بتفاصيل مشابهة مع أنه لم يبلغ بعد مرحلة إعادة التلزيم، وهو ملف الخدمات المرتبطة بهيئة إدارة السير. ولا ينفصل الحديث عن إطلاق مناقصة جديدة هنا، عن المسار الذي سلكته الإدارة مع INKRIPT.
من المفترض أن ينتهي عقد هذه الشركة التي تمسك بمفاتيح تشغيل خدمات هيئة إدارة السير والمركبات وتتحكّم بأنظمة تشغيل تجهيزاتها المعلوماتية ورموزها، في شهر أيار من العام 2025. علماً أنها تخضع لتحقيق برلماني وقضائي في قانونية عقدها الممتد لسنوات، وفي أدائها الذي تسبب بتعطيل هذا المرفق الذي يفترض أن تسيّر عمله. وعليه فإن أداء هيئة إدارة السير في إطلاق مناقصة جديدة لتلزيم خدماتها سيحدد المسار الذي سيسلكه عمل الهيئة في المرحلة المقبلة، وما إذا كان سيبقيها رهينة لمشغلها الحالي أم يسعى إلى إصلاح جذري في القطاع.
وفي ذمة الهيئة ملف تلزيم آخر كان يفترض أن ينجز في سنة 2024 أيضاً، وهو ملف تلزيم الكشف الميكانيكي الذي سحب من التداول منذ شهر تشرين الأول من العام 2023، إثر تأجيل لتعديل دفتر الشروط الذي لقي إشادة لدى نشره على موقع هيئة الشراء العام، من دون أن يعاد طرح المناقصة طيلة العام 2024.
نجومية هذه الملفات وإن طغت على غيرها، فهي لا تشيح النظر عن أهمية ملفات أخرى، لم تنته صفقاتها إلى النتائج المرجوة على المستوى الإصلاحي.الإتصالاتملف تلزيم خاصية الرسائل المرسلة عبر التطبيقات أو ما يعرف بـ A2P واحد من تلك الملفات التي طوي العام 2024 على مراوحة في تلزيمها عبر شركة تاتش، بعد ان بلغت مرحلة فض العروض. وهذا ما يحمل في طياته ايضاً التمديد لشركة INMOBILES التي شاب تلزيمها تشغيل الخاصية شبهات عديدة، كشفت في تقريرين صدرا عن هيئة الشراء العام وديوان المحاسبة؛ علماً أنه وفقاً للمعلومات أيضاً فإن ديوان المحاسبة يعيد البحث في تقديم هذه الخاصية بواسطة شركة VOX SOLUTIONS الملتزمة تشغيلها عبر شركة ألفا، ما يطرح التساؤلات عما إذا كنا أمام محاولة إلتفاف أخرى على نتائج تلزيم مشابهة.
الإنترنت غير الشرعي، وتطبيق المرسوم 9458 الموضوع لإستعادة الدولة عبر هيئة أوجيرو لملكيتها الكاملة للشبكة، هو واحد من النقاشات التي سيستحوذها العام 2025 أيضاً، بعد أن رفض ديوان المحاسبة عرض التعاقد المقدم بين أوجيرو والشبكات المنشأة خلافًا للقانون، قبل ضبطها جميعها وإحالتها على القضاء، بموازاة رفض هيئة التشريع والاستشارات لآلية وزارة الاتصالات المقترحة لتغريم مزودي خدمة الإنترنت الـ ISP الذين قاموا بتأجير سعاتهم لديوك الحي، ودعوتها وزارة الإتصالات إلى تطبيق القوانين والغاء قرار تأجير الخطوط الدولية المخصصة للانترنت وتغريم كل مخالف بتأجير السعات.
صفقة أخرى ترتبط بهيئة أوجيرو وحظيت بغطاء وزارة الاتصالات، وتتعلق بخدمة بث المحتوى عبر شبكة الانترنت المعروفة بـ OTT أو OVER THE TOP ولا تزال قيد بحث في ديوان المحاسبة، بعد مراجعة تقدمت بها الوزارة أيضا لقرار صدر عن الديوان في سنة 2024 أبطل من خلاله الصفقة التي رأى أنها تحاول تلزيم الخدمة لشركة STREAM MEDIA "الوهمية" كاشفا ما يحمله ملف التلزيم من مخالفات ونواقص وتناقضات، حمّلته بالعيوب والشوائب"الطابع الإلكترونيإذا كانت تلزيمات وزارة الاتصالات حلّقت بنجوميتها على سائر الملفات، فإن صفقات أخرى لا تقل عنها أهمية في تسيير أمور الناس، ولكنها لا تزال في مرحلة المراوحة. وأبرز تلك التلزيمات ما يتعلق بتشغيل خدمة الطابع الإلكتروني التي يدرس ملفها بالتعاون مع ديوان المحاسبة، وتعطل النقاش حولها إبان العدوان الإسرائيلي الأخير، ومن المرتقب أن يتابع النقاش بما يوقف معاناة الناس جراء الإبتزاز الذي تعرضوا له نتيجة لاحتكار كميات الطوبع الورقية الضئيلة.
وعلى الرغم من ان تلزيم إزالة ركام العدوان يشكل أبرز الملفات التي ستتطلب جهداً من وزارة الأشغال لمعالجتها، إلا أن الملف الأبرز الذي ستنتظر تطوراته أيضاً في العام 2025 هو ملف تلزيم دراسة الجدوى الاقتصادية لإنشاء نفق ضهر البيدر، بعد أن أعطيت إشارة الإنطلاق به في شهر شباط 2024. مع الإشارة إلى أن إطلاق الدراسات الفنية والمالية والبيئة للمشروع، لا يعني بالضرورة وضعه على سكة التنفيذ. فما بعد الدراسات، التي قد تستغرق أيضاً وقتاً طويلاً، هناك التلزيمات التي يبقى مصير إطلاقها مقروناً بالإستقرار الأمني والسياسي المنشود، والذي ترتبط به أيضاً الروحية الإصلاحية المطلوبة في إدارة ملفات التلزيم، فإما أن يتيح فرص المحاسبة، أو نستمر في حالة الإستنزاف القائمة.