2025- 01 - 05   |   بحث في الموقع  
logo وفيات راكبي الدراجات النارية ترتفع بشكل كبير بعد مقتل شخص واحد تقريباً يومياً على طرق نيو ساوث ويلز logo قس محبوب في سيدني يكشف عن صدمته بشأن أعماله الخيرية logo كلايف بالمر يتقدم بطلب لتسجيل علامة تجارية باسم “كلايف وبولين بارتي” logo توني أبوت يدعي أن حكومته “أُحبطت من قبل المؤسسة اليسارية” logo دفعة ضخمة من تدابير تكلفة المعيشة ستدخل حيز التنفيذ اعتباراً من شهر يناير logo النصائح الخمس لتوفير المال قد تعيد آلاف الدولارات إلى جيبك في عام 2025 logo 20 في المائة من أصحاب العمل يخشون قوانين العمال الجديدة logo الهوة بين حماس وإسرائيل عميقة.. ونتنياهو يسعى لصفقة جزئية
أحمد عدوية...الأب لمَن لا يقدّرون الآباء ولا يتمردون عليهم
2025-01-03 12:25:41

قبل سنوات، شاع تسجيل يظهر فيه المغنّي الراحل أحمد عدوية وهو في حفلة، ينظر بفجاجة إلى مؤخرة امرأة. ورغم تقدُّمه في السنّ، بدا مقطع الفيديو متناسباً مع عدوية، أو بالأحرى متناسباً مع الصورة الشائعة عنه كمطرب شعبي يمثّل شريحة شعبية واسعة، أفرادها لا يتورّعون عمّا فعله عدويّة. وهذا لا يعني وصم هذه الشريحة بالتحرّش الجنسي، بقدر ما يشير المُتخيَّل عنها إلى فئة غير مشذّبة على النحو الذي نراه لدى فئات الطبقة الوسطى، أو لدى "الأرستقراطية" الاقتصادية والمتعلّمة عموماً التي تعبّر عن غرائزها بأساليب مشذّبة.لكن عن أيّ شعبي نتحدث؟ فالمتابع لا يستطيع، على سبيل المثال، توقُّع النظرة المتحرِّشة ذاتها من شفيق جلال، وهو مطرب شعبي آخر معروف. يجمع عدوية وجلال أن النشأة الفنية للاثنين كانت في شارع محمد علي، شارع الفنّ الذي صار يمكن وصفه بـ"المختبر الشعبي" للفن. شفيق جلال من مواليد العام 1929، أما عدوية فهو من مواليد 1946، ولا شكّ في أن فارق السنّ يقول شيئاً عن الاختلاف بين التجربتين، إلا أنه ليس كافياً ما لم نستنطقه على أكثر من صعيد.هناك أغنية شهيرة لشفيق جلال، تقول كلماتها: أمّونة بعتلها جواب.. أمونة ولا سألتْ فيّ.. أمونة إيه الأسباب.. أمونة ما تردّي عليّ.. على كيفِك.. على كيفك.. انشالله ما رديتي عليّ يا أمونة. وهي كلمات بسيطة مفهومة، بخلاف أغنية عنوان أغنية شهيرة جداً لعدوية هي: السح الدح أمبو. وكلمات الأخيرة عموماً سهلة ومفهومة، إذا قورنت بأغنية أخرى لعدوية نفسه تقول كلماتها الشبيهة بالفوازير: كركشنجى دبح كبشه.. يا محلى مرقة لحم كبشه.. عكشو فركش.. نكشو طنش.. قلشو إقلش.. سبع سلاطين استسلطناهم من عند المستسلطانين.. تقدر يا مسلطن يا مستسلطن تستسلطنلنا سبع سلاطين.. زي ما استسلطناهم من عند المستسلطانيين.
في أغنية جلال تأتي الطرافة من مفارقتها الغناء العاطفي الرائج، حيث يستطيع الحبيب الغاضب مخاطبة الحبيبة: انشالله ما رديتي عليّ يا أمونة. بمعنى أنه لا يكترث بعدم ردّها بعد الآن، وهذا مختلف بالطبع عن الغناء العاطفي السائد؛ النمط الكلثومي أو نمط عبدالحليم حافظ... حيث للتأدّب في الغرام مقتضيات مغايرة. يستطيع الشعبي، وفق هذه التراتبية، المروق من السائد بوصفه أدنى منه، ومختصّاً بشريحة يتم التسامح معها على أنها جزء من الفولكلور؛ جزء ذاهب إلى الزوال بموجب الأيديولوجيا التقدمية التي كانت سائدة في الخمسينات حتى الستينات، أو حتى هزيمة حزيران 1967 على نحو خاص.أغنية السح الدح أمبو، فضلاً عن العنوان الغريب، تفتقر إلى الوحدة، فالمقطع الأول يتوجّه إلى محبوب لا يرحم جماله، ثم تذهب الأغنية للحديث عن طفل يبكي، من دون أي رابط مع الاستهلال. وقد نالت الأغنية شعبية كاسحة مطلع السبعينات، لكنها تبقى مفهومة بالمقارنة مع "كركشنجى دبح كبشه"، والأخيرة حافلة بألفاظ قد يصعب نطقها، مثلما يصعب فهمها بسرعة، مع أنها تُقدَّم ضمن الشعبي المتداول. إلا أن هذا الشعبي الذي عُرف به عدوية لا نراه عند شفيق جلال ولا عند مغنيات شعبيات مثل عايدة الشاعر، أو ليلى نظمي "الأحدث سناً بقليل" وهي من جيل عدوية.
لقد كان عدوية ظاهرة، ما يجعله منفصلاً إلى حد ما عن الغناء الشعبي بصورته المعهودة، وكالعادة في ما يخص أي ظاهرة؛ فإنها محمولة على عوامل عديدة لم تكن متوافرة من قبل على هذا النحو. هكذا يمكن النظر إلى ظاهرة أم كلثوم أو ظاهرة ليلى مراد، أو عبدالحليم حافظ، على الرغم من أن الصورة المتخيَّلة عن عدوية لا تدعم فكرة أن يكون واعياً لتجربته على هذا النحو، أي كما يمكن القول إن أم كلثوم كانت واعية لكونها ظاهرة، وكذلك عبدالحليم. الصورة المتخيَّلة عن عدوية تجعله "أدنى" من أن يُحمَّل وعياً على هذه السوية، إلا أننا إذا أخذنا مثلاً تسجيلاً متداولاً له لأغنية "خسارة.. خسارة" لعبدالحليم حافظ لا بد أن نلاحظ أن عدوية "وهو يؤديها" مدرك بدقة لاختلافه عن عبدالحليم، وأنه أدّاها بأسلوبه، فجعلها حقاً أغنية مشابهة له، أي أنه أجاد تطويعها لصالح لونه الخاص.في الخمسينات والستينات، حدثت هجرة كثيفة جداً من الأرياف إلى المدن، إلى القاهرة خصوصاً، ومن المؤكد أن انقلاب الضباط الأحرار قد دعم التوجّه العشوائي إلى المدن، بوصفها مركزاً للسلطة الجديدة الوافدة بمعظمها من الأرياف. وكما هو معلوم عن هذا النمط عموماً، لم تكن المدينة مهيَّأة أصلاً لاستقبال العدد الضخم من الوافدين الجدد، لا على صعيد فرص العمل أو الخدمات، ولا على صعيد استيعابهم وصَهْرهم ضمن النسق المديني على غرار ما كان يحدث عندما كانت الهجرة فردية، وذات كثافة أقل. في معظم التجارب المشابهة، أدت هذه الهجرة إلى تحطيم النسيج المديني السابق عليها. فالأحياء الأرستقراطية فقدت مع الزمن طبيعتها السابقة، لأن أثرياء العهد الجديد حلّوا مكان الأرستقراطية القديمة. كذلك هو حال الأحياء الشعبية التي غصّت بآتين من منابت ريفية مختلفة، غير متجانسة كما هو الحال في كل المجتمعات. ثم، بعدما فاضت الأحياء الشعبية بحملها الثقيل، نشأت أحياء مدقعة أكثر بالمقارنة معها، ومنها أحياء المخالفات وصولاً إلى السكن بين المقابر.
تحطيم النسيج المديني انعكس في العمران، وفي الاجتماع أيضاً، إذ لم تعد المدينة مستقرة اجتماعية كما كانت من قبل، والحراك البشري الكثيف راح يفرض نفسه مكان الماضي المندثر. في الشق الشعبي، يسعنا القول أن الحارة القديمة قد انتهت بوصفها وحدة اجتماعية لها تميزها، ولها ما يمكن القول أنها أعرافها الخاصة نسبياً، ولها أيضاً لغتها. نقترح أن تكون قد حدثت النقلة هنا من الحي الشعبي إلى "قاع المدينة".ما يميّز القاع عن الشعبي أن الأول يفتقر إلى عنصر الانسجام الذي كان يحوزه الشعبي في ما مضى. القاع هو خليط لا يذوب في نمط مديني-شعبي سابق، أي أنه لا يذوب في نمط مسيطر، بل يصنع نمطاً من الخليط بلا تراتبية واضحة ضمنه. والقاع بطبيعته متحرّك، غير مستقر، أي أن النمط الذي يصنعه لن يُكتب له الاستقرار، وسيكون قابلاً للانزياح والتعديل دائماً.القاع هو عموماً بلا أعراف، أي بلا أخلاقيات محلية، ما يجعله بهذا المعنى أكثر تحرراً وانفلاتاً. وعلى صعيد اللغة، لا يتسم القاع بالثبات الذي كان للشعبي من قبل، فالفوضى تصنع مفرداتها الخاصة، والتي لن يُكتب لها الثبات والبقاء بدورها. ويمكن ملاحظة أن القاع يقترح مفردات جديدة باستمرار، وهو يظهر متحركاً بلا توقف بالمقارنة مع اللغة الرسمية، أو مع اللغة شبه الرسمية المتعيّنة بالصحافة والأدب، والمتعيّنة بالفن السائد الذي يُنظر إليه بوصفه "الفن" مع ال التعريف، أو بوصفه فناً راقياً، لا شعبياً مبتذلاً.
اقتراحات القاع اللغوية موجودة في معظم البلدان، ولا يندر أن تكون هي التي تقود تطوير اللغة الرسمية، أو تجبرها على مجاراة الواقع، بما في ذلك إدخال مفردات جديدة إلى المعاجم اللغوية. ومن الجائز تشبيه هذه الاقتراحات بكونها نوعاً من "تريند" شفوي، قبل أن يشيع مفهوم التريند مع وسائل التواصل الاجتماعي. وباستثناء تلك الحملات التي تختص بمناصرة قضية ما على وسائل التواصل، يجوز القول أن التريند هو وريث اقتراحات القاع، بما في ذلك وراثة كونها موضة سرعان ما تتغير.أحمد عدوية ليس ابن الشعبي المعترف به، هو ابن القاع تحديداً؛ ابن القاع الذي بلا آباء. وما ذكرناه عن فقدان عنصري الوحدة والانسجام في "السح الدح أمبو" يمكن اعتباره نموذجاً على تمثّل التنافر الذي يمور في القاع، وهو شأن مختلف عن المستوى الموسيقي الذي يحافظ على انسجامه، بل يمكن التنويه بحرفيته العالية في العديد من مواضعه، وإن كان الموّال الذي عُرف به عدوية يتيح أصلاً مساحة من الحرية تجعله متكيّفاً مع خصوصية كل أداء.وبشيء من التسييس، يجوز القول أن عدوية هو ممثل القاع الذي أتى كواحدة من نتائج المرحلة الناصرية، لكنها النتيجة غير المقصودة، وغير المحبَّبة لأنها لا تتوافق مع شعاراتها، ولا مع نزوعها "التقدّمي" الرسمي. من هذه الناحية أيضاً، يبدو عدوية بمثابة "الابن الضال"، وهو بهذا المعنى مختلف تماماً عن صورة "الابن المتمرد"، الصورة التي تحتفي بها الثقافة الرسمية "ولو سراً"، بينما تعمل على تطويع ما أمكن من تمرده. الابن المتمرد هو مرحلة عمْرية، وهو تمثيل جيلي، في حين أن ابن القاع الضال يطيح فوضويته الأصيلة بهذه الترسيمة الكلاسيكية.
على ذلك، لن يكون مستغرباً النزوع إلى التبرؤ من عدوية، ونجد تعبيراً صريحاً عن ذلك بمنع بثّ أغانيه في الإذاعة المصرية، ليحقق شهرته خارج ما هو رسمي، وبما هو مضاد للرسمي، إنما من دون تسييس. منعه إذاعياً جاء بناء على وصم تجربته بالابتذال، وهذا مختلف عن منع أغانٍ بعينها لمطربين آخرين شعبيين أو غير شعبيين. نشير مثلاً إلى منع أغنية عايدة الشاعر "الطشت قال لي.. يا حلوة ياللي قومي استحمي"، وإذا كان منعها متأخراً عن منع عدوية، إلا أنها تعطي مثالاً جيداً على حدود التسامح مع الغناء الشعبي الذي كان يحظى حقاً بشيء من التسامح فيما يتعلق بالرقابة على "العفة"، إذ من المسموح للشعبي أن يكون أقل تعففاً انطلاقاً من موقعه "المبتذل"، لكن بحدود لا يُسمح له بتجاوزها.وإذا عدنا عقوداً إلى الوراء، إلى الخمسينات والأربعينات مثلاً، فأقصى ما يمكن تخيّله لتجربة عدوية هو أن يكون مطرباً من مطربي مقاهي القاهرة، ولا يُستبعد أن يحظى بشهرة ما عطفاً على طرافته، وربما يأتي إلى المقهى ليستمع إليه واحد من مطربي الصف الأول، عبدالوهاب أو عبدالحليم، وحتى أم كلثوم في نوبة نادرة تغادر فيها رصانة الست. وهذا مختلف بالتأكيد عن ذهاب عبدالوهاب للاستماع إلى عدوية في كازينو في شارع الهرم بعدما حقق شهرة مدوية، أو غناء عبدالحليم على سبيل المرح شيئاً من "السح الدح أمبو".لو أتى عدوية في زمن أسبق، لا يُتوقع له أن يحقق شهرة توازي مثلاً شهرة مطربة مقاهٍ مثل رتيبة أحمد، صاحبة أغنية "أنا لسه نونو في الحب بونو.. دا الحب دح دح والهجر كخ كخ"، وإن كان لا يُستبعد أن يسجّل أغنيتين أو ثلاث لصالح شركة من شركات الأسطوانات القديمة. ووصف القديمة يذهب هنا إلى الأسطوانة لا إلى الشركة؛ وصف يذهب إلى أسطوانة ما قبل عصر الكاسيت.بلا تحفظ، يمكن القول إن ظاهرة عدوية هي ابنة عصر الكاسيت، مثلما هي ابنة القاع. وكان الهولندي لو أوتنز قد اخترع شريط الكاسيت المعروف في بداية الستينات، وأحدث ثورة عالمية على هذا الصعيد بالمقارنة مع الأسطوانات وجهاز التشغيل القديمين. أهم مميزات الاختراع الجديد أنه لا يتطلب أستوديوهات وأجهزة للتسجيل لا تتوافر إلا في الشركات المختصة، إذ صار متاحاً على نطاق واسع اقتناء آلة التشغيل الجديدة، والتي تقوم بالتسجيل أيضاً.
أهمية الاختراع الجديد آنذاك هي في أنه استهل عصر ديموقراطية المعلومة، فالجهاز الجديد سمح لمن يشاء بتسجيل ما يشاء، ثم عرضه للتداول من دون المرور بأي نوع من أنواع الرقابة المسبقة، سواء أكانت رقابة رسمية مباشرة أو شبه رسمية. وضمن رحلة انتشار الكاسيت في العالم، صادف أن صار رائجاً في مصر، وفي العالم العربي عموماً، مع بداية السبعينات، أي مع انطلاق ظاهرة عدوية. ثمة صورة شهيرة للرئيس الأسبق أنور السادات، يظهر فيها إلى جواره جهاز الكاسيت، وكانت حينها إشارة متعمّدة منه للدلالة على تحسن معيشي أتاح للمصريين اقتناءها، وأيضاً للدلالة على مستوى من الحريات والانفتاح.مساء الأحد 29 ديسمبر، رحل صاحب "زحمة يا دنيا زحمة" و"سلامتها أم حسن" و"يا بنت السلطان"... ولا مبالغة في القول أنه ظاهرة أسست لما يمكن تسميتها بـ"أغنية القاع"، في زمن راح فيه الشعبي يتقهقر، حتى يجوز القول حالياً أن المكان الفعلي المتبقّي للشعبي هو في المتاحف، أو باستعادته بوصفه فولكلوراً. أما القاع، ومن دون التورط بتاتاً في أحكام قيمة، فإنه تقدّم، ويواصل تقدّمه عبر ظواهر تتمثّل ظاهرة عدوية، وإن كان من الصعب أن ننسبها إليه فنياً. لقد كان عدوية بمثابة أب، ربما لأبناء ليس من طبيعتهم الاعتراف بذلك أو تقدير الآباء، أو حتى تقديم بيانات ثورية للتمرد عليهم.


المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2025
top