يواصل السوريون انتفاضاتهم حتى بعد انتصار الثورة. هم يدركون أن "الانتفاضة" لن تتوقف، لا بل دخلت في مرحلة جديدة وشديدة الدقة والتحدّي. هم الذين نجحوا في تطويع الظروف والأحداث على مدى سنوات، في عقود سابقة، وتكيّفوا مع ظروف القمع والاستبداد بلا استسلام. وفي سنوات الثورة، تحمّلوا المجازر والتهجير والاعتقال. وفي سنوات ما بعد العسكرة وما ظنّه النظام السوري انتصاراً على المعارضة، وتكريساً لقوته العسكرية كطرف أوحد، تمردوا على كل محاولات "تعويم بشار الأسد" دولياً وعربياً، رفضوا الاعتراف والاستسلام، وقالوا إن ثورتهم عندما اندلعت لم تكن بتوجيهات خارجية ولا بناء على موازين قوى إقليمية، ولم يستشيروا أحداً في الخروج إلى هذه الثورة، فما استسلموا. وبالتزامن مع كل محاولات تطويعهم لصالح الأسد وتعويمه، كان النظام يتداعى من الانهيارات السياسية، الأمنية، الاقتصادية والمعيشية، وصولاً إلى سقوطه النهائي مع إطلاق عملية ردع العدوان العسكرية.
فتح انتصار الثورة السورية الباب على سجالات كثيرة، وخلافات أكثر حول الجهة التي يمكنها أن تتبنى هذا الانتصار. حتماً اتجهت هيئة تحرير الشام إلى تبني الانتصار العسكري ونسب الانتصار الثوري وحصره بها وحدها. حتى أن بعض مسؤوليها كانوا يشيرون إلى فضلهم في الانتصار وعدم الاعتراف بالعمل التراكمي الذي أقدم عليه كل الشعب السوري. ومن السجالات التي تسجّل أيضاً هو التسابق حول من هي الجهة التي وصلت إلى دمشق قبل الأخرى بعيد مغادرة بشار الأسد للعاصمة السورية.حيوية الاعتراض يمارس أحمد الشرع "سلطته المطلقة" كمنتصر أوحد في الثورة، وهو يتحدث بوضوح عن ضرورة الانسجام وعن الانفتاح على المكونات الأخرى. وذلك يجعل انتفاضة السوريين مستمرة ومتواصلة. من انتفاضة النساء السوريات على تصريح لعائشة الدبس، إلى "انتفاضة زنوبيا" رداً على أفكار تتصل بتغيير المناهج الدراسية. يظهر المجتمع السوري حيوية استثنائية في مواجهة أي قرارات يمكن أن تتخذ من قبل الإدارة الجديدة، وتلقى معارضة شرائح كثيرة من المجتمع، ولا سيما من صفوف وصنوف المعارضين الأساسيين للنظام الأسدي.
تدفع الحيوية السورية، ورفض الشعب السوري العودة إلى زمن يعتبرونه غبر، باتجاه تشكيل عناصر ضغط قوي قادرة على استعادة توازن القوى السياسية. وهو ما دفع الإدارة الجديدة إلى التراجع عن قرارات كثيرة، وصولاً إلى توضيح عدم إدخال تغييرات على مناهج التعليم، أو إعادة النظر في طريقة توجيه الدعوات للحوار الوطني السوري وكيفية مشاركة القوى والأطراف المختلفة فيه، بدليل أن ذلك يحتاج إلى عملية إنضاج واضحة. تلك الحيوية هي التي ستمتحن "براغماتية" القيادة الجديدة في كل الاستحقاقات الداخلية، إن على مستوى تنظيم الحوار ومحتواه والمشاركين فيه وصولاً إلى إطلاق المؤتمر السوري العام، وتشكيل الهيئات المناط بها كتابة الدستور أو تحديد شكل النظام السياسي، وكيفية تشكيل حكومة المرحلة الانتقالية التي تضم مختلف المكونات، وتحديد مواعيد الانتخابات وقوانينها. أو على مستوى تشكيل من سيقوم بمهام العدالة الانتقالية، بالإضافة إلى الاستحقاقات الاقتصادية والإدارية والأمنية.
النقد والديموقراطية
فمنذ 13 عاماً على انطلاق الثورة، راكم فيها المجتمع السوري بأكمله تجارب كثيرة، وخبرات مع ثقافة سياسية تمنع على نحو واضح أي محاولات للمصادرة أو الإقصاء أو الاستئثار. فالسوريون اكتسبوا ممارسة نقدية وديمقراطية، وهم الذين خرجوا من القمقم والصمت المفروض أسدياً، ولن يعودوا إلى أي قمقم آخر. وهذا ما يجبر القيادة الجديدة، على التراجع عن سلسلة قرارات وزارية أو سياسية، بفضل سرعة وقوة ردود فعل مختلف أطياف وشرائح المجتمع السوري، المتمسك باحترام التنوع واحترام الحريات واحترام فكرة العدالة والمساواة، بما يبشّر بسوريا حيوية وديناميكية ستفرض نفسها على أي سلطة ستنبثق بعد هذه المرحلة الانتقالية.
في المقابل، تأتي الجهود الغربية والعربية، لتلاقي رغبات وتطلعات الشعب السوري كضغط مواز على القيادة الجديدة، تحت عنوان ضرورة تمثيل كل مكونات الشعب السوري على قدر كبير من المساواة والعادلة، والحرص على أن تكون سوريا الجديدة بنظام سياسي ديمقراطي، وعلى الأقل يمثل الحرية السياسية للسوريين. وليس المقصود بالمكونات الطائفية فقط، بل المكونات السياسية أيضاً، إذ لا يمكن حصر المجتمع السوري بتوزيعه على طوائف وملل، لا سيما أن كل ملّة تحتوي على مكونات سياسية مختلفة، من دون إغفال الدافع المصلحي لكل دولة من هذه الدول في المسارعة إلى سوريا، وتثبيت الحضور السياسي أو الاقتصادي.
يواكب المجتمع السوري بحيويته السياسية، حيوية دولية مندفعة باتجاه دمشق، والتي تتجلى في توالي زيارات المسؤولين الدوليين، بعضها يصب في سياق اكتساب المشروعية الخارجية من قبل القيادة الجديدة، وبعضها الآخر يندرج في سياق البحث عن مصالح أو فرض شروط وأجندات، وما بينهما محاولات من جهات كثيرة لاستغلال أي اختلال سياسي، أو اجتماعي، لتغذيته، بالمعنى الأمني والعسكري، في محاولة لإعادة إغراق سوريا بالفوضى أو بنزاعات دموية على "وجهة" الدولة أو طبيعة النظام السياسي. وهذا بالضبط ما يحاول السوريون تجنّبه لعدم العودة إلى الاقتتال، أو إلى الانقلابات، أو إلى فرض مناطق النفوذ بما يحاكي تجربة ليبيا مثلاً.ولذا، ومن أجل حماية سوريا وثورتها، علينا أن ننصت جيداً لنقد السوريين ورغباتهم، بوصفها غاية كل سياسة.