في ليلة رأس السنة الجديدة، وفي فندق الماسة المملوك للقوات المسلحة، بالعاصمة الإدارية الجديدة، يتم الإعلان عن تدشين حزب جديد في مصر باسم "الجبهة الوطنية". إضافة حزب آخر إلى لائحة من 87 حزباً قائماً بالفعل في ساحة بلا سياسة، ليس خبراً، لولا أن توقيت إطلاق الحزب والتغطية الإعلامية الاحتفالية بشكل مبالغ فيه والأسماء المنخرطة فيه، كل هذا يشير إلى أننا بصدد حلقة أخيرة من سلسلة العروض السياسية للسلطة. لا يفهم النظام الحاكم في مصر السياسة سوى بوصفها استعراضاً محضاً أمام جمهور سلبي، ولا شيء آخر. وسرعان ما تتبوأ العاصمة الإدارية موقعها كمركز جديد للاستعراضات، يستعد لاستقبال مهرجانات الولاء ومهرجانات الشباب ومناسبات تحتوي عناوينها على عبارة "لم الشمل" وكذا الحوارات الوطنية والمواكب والقمم الدولية وولائم "العائلة المصرية"، وغيرها من كرنفالات دورية ومملولة موزعة بطول السنوات الماضية، والتي اختصت بها حتى وقت قريب العاصمة الكبرى ومنتجع النخبة السياسية القديم في شرم الشيخ.على خلاف الرؤساء، بدءاً من ناصر وحتى مبارك، وخروجاً على تقاليد ترأسهم للجسم السياسي الحاكم سواء كان الاتحاد الاشتراكي في حالة الأول أو الحزب الوطني في حالة الأخير، تحاشى السيسي بشكل قاطع أن يكون على رأس حزب سياسي. جميع الرؤساء السابقين من العسكريين، باستثناء مرسي، استمدوا جل شرعيتهم من الانتماء إلى الجيش. ولكن فهموا أيضاً حاجتهم للسياسة من أجل اكتساب أرضية أوسع وأكثر استقراراً لشرعيتهم. وهي ليست بالضرورة أرضية شعبية، لكن على الأقل ضمنت تحالفاً أوسع من أصحاب المصالح، في شبكة تمتد من موظفي الدولة إلى رجال الأعمال الكبار. أما إعادة التأسيس الأخيرة لنظام يوليو وعلى رأسها السيسي فتستمد كامل شرعيتها من الجيش وحده. النقمة العسكرية المضمرة تجاه محاولة مبارك توريث الحكم لابنه جمال، والخروج بالرئاسة من سلك الجيش ووضع مهمة التوريث في يد لجنة السياسات في الحزب الوطني، علمت النظام الحالي درساً آخر، هو أن الحزب يمكنه أن يبتلع السلطة.بالإضافة إلى الاستعراض، لا يلجأ النظام الحالي سوى إلى العنف العاري. يتعالى السيسي على السياسة، لذا ليس ثمة ما يمكن تسميته حزب السلطة. هناك أحزاب موالاة أكبرها تمثيلاً في البرلمان هو حزب "مستقبل وطن" بأغلبية 320 مقعداً، لكن الأحزاب الأخرى التي تتقاسم ما تبقى من مقاعد، مثل حزب الشعب الجمهوري بـ50 مقعداً وحماة الوطن بـ27 مقعداً، بل وحتى حزب النور السلفي بـ11 مقعداً، جميعها أحزاب موالاة. بمعنى آخر ليس هناك حزب للسلطة، لأن كل الأحزاب هي أحزاب السلطة، لا برامج مختلفة ولو صورياً ولا مصالح متعارضة بينها.يزف موقع "اليوم السابع" أخبار الحزب الجديد بعنوان يقول: "مصر كلها في تأسيسية الجبهة الوطنية"، بالفعل تضم اللجنة التأسيسية 8 وزراء سابقين و8 إعلاميين وكتّاب و7 رجال أعمال و15 برلمانياً هم في الحقيقة أعضاء في أحزاب أخرى موالية، ولم ينس الحزب أن يضم أيضاً مفتياً سابقاً وممثلاً وشاعراً وشيخ طريقة صوفية وزعيماً قبلياً، وبالطبع قيادات عسكرية متقاعدة وضباط أمن وطني، وكذا عدداً من المعارضين، أو ما يصفهم الموقع بـ"أصحاب تجربة المعارضة"، هكذا لا تعود المعارضة موقعاً سياسياً على يسار السلطة أو يمينها أو موقفاً من السياسة، بل خبرة تضاف إلى سابقة الأعمال في السيرة الذاتية. أما قيادات الحزب نفسه فتصف برنامجها بأنه "على مسافة واحدة من الموالاة والمعارضة". لا سياسة هنا أيضاً في الحزب الجديد، الذي أعلنت وسائل الإعلام عن تقاطر المئات لتوقيع توكيلاته في كل المحافظات فور إعلان تأسيسه. والحزب، بحسب تصريح آخر لأحد قياداته، سيدخل في أكبر تحالف مع الأحزاب الأخرى في الانتخابات المقبلة. هكذا تبدو الانتخابات البرلمانية نهاية العام 2025 تدويراً للأسماء ذاتها، والمزيد من الشيء نفسه.