نحو 180 مركباً في مرفأ صور، و100 مركب في مرفأ الناقورة، شكّلت قبل الحرب العامود الفقري لقطاع صيد الأسماك في منطقة الجنوب. أهميّة هذا القطاع لم تقتصر يومًا على مساهمته المباشرة في الناتج المحلّي الجنوبي، بل تداخل نشاط القطاع بشكلٍ عميق مع سائر الأنشطة الاقتصاديّة في المنطقة، وخصوصًا القطاع السياحي. فنشاط صيد الأسماك، وسلسلة التوريد التي تبدأ منه، شكّلا تاريخيًا جزءًا من هويّة الأمكنة التراثيّة والثقافيّة في الجنوب، بينما شكّل النشاط السياحي والفندقي مصدرًا أساسيًا للطلب على الأسماك. على هذا النحو، لا يمكن العودة إلى أزمة القطاع بعد الحرب، إلا بوصفها أزمة نسيج اجتماعي جنوبي كامل لم يسترجع عافيته بعد.
لم يكن قطاع صيد الأسماك في أفضل حالاته قبل بدء الحرب. الصيادون مثّلوا خلال السنوات الماضية فئة اجتماعيّة بالغة الهشاشة، بغياب أي نوع من شبكات الحماية الاجتماعيّة التي يمكن الاستفادة منها، بما في ذلك التغطية الصحيّة. التلوّث، وتناقص الأغلال اليوميّة، وتراجع النشاط السياحيّ، كلّها عوامل جعلت القطاع –حتّى قبل الحرب- أقل جاذبيّة للصيادين. لهذا السبب، كان استمرار عمل الصيادين في المنطقة محل سؤال، كما كان تناقص أعدادهم ظاهرة ملحوظة، منذ ما قبل تشرين الأوّل 2023. أمّا الأحداث التي تلت هذا التاريخ، فجعلت هذا القطاع، والنسيج الاجتماعي القائم عليه، عرضة للانهيار التام.جزء من هويّة المدينة مهدّديتحدّث نقيب الصيادين في صور سامي رزق عن واقع القطاع الراهن في مدينته، الذي بدأ يواجه علامات التأزّم منذ تشرين الأوّل 2023، أي قبل أكثر من سنة وثلاثة أشهر. يقول لـ"المدن" أنه "منذ تلك اللحظة بدأت الأعطال في أنظمة الـ GPS، التي لا يمكن للصياد العمل بدونها. والتشويش الإسرائيلي على هذه الأنظمة، جعل العمل في البحر مستحيلًا." المرفأ نفسه، لم يتعرّض للقصف في صور بحسب رزق، إلا أنّ ركود القطاع السياحي في المدينة منذ ذلك الوقت جعل العمل غير مجدٍ. تراجع الطلب على الأسماك بشكلٍ كبير، وسمكة اللقّز التي كانت تُباع بـ 1.5 مليون ليرة لبنانيّة، صارت تُباع بـ 700 ألف ليرة لبنانيّة. ولم يعد الصيّاد يجد الإبحار مُربحًا".يستطرد رزق شارحًا التعقيدات التي أحاطت بعمل الصيّادين على مدى الفترة الماضية. إذ قبل أن تتوسّع الحرب في أيلول الماضي، أي خلال الفترة التي حكمتها قواعد الاشتباك على الحدود، فُرض على الصيادين قيود تمنع الإبحار جنوب المرفأ، وأصبحت المساحة التي يمكن العمل فيها ضيّقة إلى حدٍ بعيد. وعلى مستوى مدينة صور، أقفلت 6 أو 7 من الفنادق التي شكّلت تاريخيًا مصدرًا أساسيًا للطلب على الأسماك، بسبب الظروف الأمنيّة التي سادت في الجنوب.
لكل هذه الأسباب، وبعد تشرين الأوّل 2023، اقتصر العمل على 10 أو 15 مركباً من أصل 180 مركباً موجوداً في ميناء صور. وبطبيعة الحال، توقّف العمل بشكل كلّي بعد توّسع الحرب في أيلول 2024، ولم يستعد القطاع عافيته أو عمله حتّى اليوم. في هذه اللحظة، يستبعد رزق أن يتمكّن صيادو الأسماك من استعادة دورهم السابق في الميناء، طالما أنّ النشاط السياحي معدوم في مناطق الجنوب، بينما لم تستعد القرى الجنوبيّة الحدوديّة دورة الحياة الطبيعيّة فيها. بغياب الطلب، لا يمكن للصياد أن يعمل. ومحور عمل نشاط صيد الأسماك في الجنوب، تلبية الطلب في المناطق المجاورة. بهذا المعنى، أصبحت الأزمة أزمة دورة اقتصاديّة كاملة، لا مجرّد أزمة صيادين.
يعود رزق للحديث عن القصور الرسمي الفادح في التعامل مع هذا الملف. فخلال حربي 1996 و2006، وفّرت الهيئة العليا للإغاثة ومجلس الجنوب الحد الأدنى من المساعدات للصيادين، للتمكّن من العودة إلى العمل، واستعادة نشاط القطاع. أمّا اليوم، فلا يمكن لنقابة الصيادين تلمّس أي جهد رسمي جدّي يذهب بهذا الاتجاه. بل على العكس تمامًا، يستذكر رزق بعض المحطات السابقة، قبل الحرب، التي ساهمت في ضرب القطاع وتهشيم إنتاجيّته، مثل فتح المرفأ لأنشطة الإبحار السياحي، وهو ما دفع عدد من الصيادين إلى تأجير مساحات مراكبهم في المرفأ للمراكب السياحيّة الأكثر اقتدارًا.
في كل حديث رزق، يمكن تلمّس صورة قاتمة عن وضعيّة القطاع والصيادين اليوم. بالنسبة إليه، جاءت كل هذه المصاعب لتضيف من الضغوط التي تهدد بقاء الصيادين في مهنتهم، التي كانت قائمة قبل الحرب، وهو ما يهدّد جزء من بيئة المدينة الثقافيّة ودورتها الاقتصاديّة. فالثروة السمكيّة، والمسامك ومطاعم المأكولات البحريّة، جزء من جاذبيّة المدينة نفسها بالنسبة للسيّاح. وتهشيم هذا القطاع، يعني تهشيم جزء من هذه الصورة.
الواقع الصعب في مرفأ الناقورة
تبدو الصورة أكثر تعقيدًا في مرفأ الناقورة، كما يصفها للـ "المدن" رئيس تعاونيّة صيادي الناقورة رياض عطايا. الولوج إلى المرفأ أصلًا ما زال متعذّرًا، ولم يفلح في ذلك سوى بضعة صيادين استحصلوا على إذن خاص لزيارة واحدة منذ بضعة أيّام، من اليونيفيل والجيش اللبناني. على هذا الأساس، يصعب –بحسب عطايا- تقدير حجم الأضرار، في المرفأ الذي يستفيد من خدماته قرابة الـ 100 مركب.
وفقًا لبعض الصيادين في المنطقة، من المرجّح أن يكون الجيش الإسرائيلي قد تمكّن بالفعل من دخول الميناء خلال فترة الحرب الموسّعة والعمليّة البريّة، وهذا ما تشير إليه بعض الشهادات التي أشارت إلى حصول أعمال "تخريب" متعمّدة داخل المرفأ، ومنها قطع حبال المراكب وإغراق بعضها. ولهذا السبب، ومع مرور كل يوم لا يصل فيه الصياديون إلى مراكبهم، تتزايد الأضرار جرّاء وجود مراكب متروكة في المياه من دون صيانة، بل ومن دون حبال تربطها بالميناء نفسها. رغم صعوبة تقدير حجم الأضرار، يمكن على الأقل توقّع تزايدها بمرور الأيام، كما ينقل عطايا عن الصيادين. والطقس العاصف، يزيد احتمالات تفاقم الأضرار.
غير أنّ الصعوبات التي سيعاني منها مجتمع الصيادين لن تقتصر على مسألة ولوج المرفأ. فالقرى والمناطق المحاذية للمرفأ، التي تشكّل عمقه الحيوي ومصدر الطلب على أسماكه، مدمّرة بشكل شبه كلّي، وعودة الحياة الاقتصاديّة -وتاليًا الاستهلاك- في تلك المناطق متعذّرة حاليًا. العمل في المرفأ، تمامًا كحال مرفأ صور، غير مجدٍ اقتصاديًا، حتّى لو تمكّن الصياديون من الوصول إلى قواربهم قريبًا، وبمعزل عن حجم الأضرار التي طالت المرفأ ومرافقه الحيويّة.
وتمامًا كحال مرفأ صور، لم تبدأ معاناة الصيادين في الناقورة مع توسّع الحرب خلال أيلول الماضي، بل بدأت منذ اندلاع الاشتباكات في تشرين الأوّل 2023. منذ ذلك الوقت، لم يعد الإبحار في المنطقة آمنًا، ولم تعد المناطق المجاورة تؤمّن أي طلب لأسماك الصيادين. غالبيّة الصيادين في المرفأ، لجأت إلى قنوات بديلة لتأمين قوتها، كالاستعانة بتحويلات المغتربين، أو العمل في مهن أخرى. ومن غير الواضح عدد أو نسبة الصيادين، الذين هجروا القطاع بشكل تام، للعمل في قطاعات اقتصاديّة أخرى. لكنّ الأكيد هو أنّ الناقورة فقدت، جرّاء الأحداث الراهنة، جزءًا من هويّتها، مع هجر الصيادين لمراكبهم لفترة تتجاوز السنة والربع من الزمن.
يتحدّث عطايا عن مجموعة من التحديات التي واجهت القطاع قبل اندلاع الحرب، ومنها ارتفاع معدّل أعمار الصيادين، بسبب عدم إقبال الجيل الجديد على هذه المهنة التي تفتقد الحماية الاجتماعيّة وتعتمد على دخل مياوم وهش. القطاع كان يعاني أساسًا من ابتعاد جزء من الصيادين عن هذه المهنة، وما يحصل حاليًا سيفاقم من حجم هذه المشكلة.
مشاكل تاريخيّة في القطاع
يُعتبر قطاع صيد الأسماك أحد أهم القطاعات التي يمكن أن تشكّل رافدًا من روافد نمو القطاعات الاقتصاديّة الأخرى، وخصوصًا قطاعي الصناعات الغذائيّة والسياحة. ومن المعلوم أن لبنان يتميّز بثروة سمكيّة ضخمة، يُقدّر إنتاجها بأكثر من 3280 طن سنويًا، وبأكثر من 50 نوعًا مختلفًا من الأسماك. ومع ذلك، تضافرت مجموعة من العوامل التي حالت تاريخيًا دون نمو القطاع، بل ودون لعبه دورًا في تنمية سائر القطاعات الاقتصاديّة. وبحسب أرقام منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة، ما زال حجم التصدير من هذا القطاع يقل عن 1.6% فقط، مقارنة بحجم الاستيراد.
تتعدّد عوامل الهشاشة التي أعاقت نمو هذا القطاع، ومنها فوضى الصيد الجائر، التي تؤدّي إلى ضرب الثروة السمكيّة على المدى البعيد، وتلوّث المياه البحريّة والنهريّة، ناهيك عن سوء إدارة المرافق العامّة التي يمكن الاستفادة منها في هذا القطاع. وفي الوقت نفسه، تغاضت الدولة تاريخيًا عن تقديم أبسط أشكال الدعم للصيادين العاملين في القطاع، مثل التغطية الصحيّة أو صناديق التعاضد، وهو ما ساهم في ابتعاد اليد العاملة المحترفة عن القطاع. وفي النتيجة، بات قطاع صيد السمك عرضة للضمور المستمرّ، بسبب ضعف الإنتاج وتراجع الجدوى الاقتصاديّة وابتعاد اليد العاملة عن القطاع.
ما يجري اليوم في الجنوب، ضربة جديدة لقطاع عانى من الضمور التاريخي. غير أنّ خطورة الأحداث الأخيرة تمثّلت في تهشيم نسيج اجتماعي كامل، وابتعاد الصيادين عن حرفة شكّلت جزءًا من الدورة الاقتصاديّة الجنوبيّة. المشكلة الأهم، تمكن في عدم وجود تقديرات لأعداد الصيادين الذي سيعودون إلى مزاولة المهنة، بعد عودة السكّان والدورة الاقتصاديّة إلى المناطق والقرى المحيطة بميناءي صور والناقورة. فانتقال الصيادين إلى مهن بديلة، أو ربما أماكن سكن جديدة، قد لا يتيح لاحقًا العودة إلى بيئة عمل هشّة كصيد العمل، خصوصًا إذا غاب الدعم الرسمي للقطاع.